نشرت جريدة البيان الإماراتية مقالا للكاتب صبحى غندور، يوضح فيه أهمية إعادة إحياء مفهوم الهوية العربية المشتركة بعيدا عن اعتبارات الدين والعرق كحل أساسى لمواجهة العنصرية والحروب الأهلية التى يعانى منها أغلب دول الوطن العربى... نعرض من المقال ما يلى.
هناك حاجة ماسة الآن لإعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربى الشامل، فهذا الأمر حجر الزاوية فى بناء المستقبل العربى الأفضل.
طبعا، يبقى المدخل الصحيح لأى نهضة عربية فى تحقيق أوضاع دستورية سليمة فى البلاد العربية، علما بأن المشكلة الآن ليست فقط فى غياب الحياة الديمقراطية السليمة، وإنما أيضا فى ضعف الهوية العربية المشتركة وطغيان الهويات الطائفية والمذهبية والإثنية على معظم المجتمعات العربية.
وفى محصلة هذا الواقع تكمن أخطار الانقسامات داخل الأوطان العربية، وبذا تصبح العروبة لا مجرد حل فقط لأزمة العلاقات بين البلدان العربية، وإنما أيضا سياجا ثقافيا واجتماعيا لحماية الوحدات الوطنية فى كل بلد عربى، إذ حينما تضعف الهوية العربية فإن بدائلها ليست هويات وطنية موحدة للشعوب، بل انقسامات حادة تفرخ حروبا أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معا.
إن العودة للعروبة هوية جامعة حاجة قصوى الآن لحماية المجتمعات فى الداخل، ولتحصينها من هيمنة الخارج، ولبناء أسس سليمة لتعاون عربى مشترك وفعال فى المستقبل.
العروبة المنشودة ليست دعوة لتكرار التجارب السياسية والحزبية التى جرت بأسماء قومية فى مراحل مختلفة من القرن العشرين، بل عودة إلى أصالة هذه الأمة ودورها الحضارى والثقافى الرافض للتعصب وللعنصرية. ومن دون عروبة جامعة لن تكون هناك أوطان عربية واحدة.
إن «الكل العربى» مكون أصلا من «أجزاء» مترابطة ومتكاملة فالعروبة لا تلغى، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الإثنية، بل تحددها فى إطار علاقة الجزء بالكل.
إن القومية تعبير يرتبط بمسألة الهوية لجماعات وأوطان وأمم، وتحمل سمات ومضامين ثقافية تميز جماعة أو أمة عن أخرى، ولكنها (أى القومية) لا تعنى نهجا سياسيا أو نظاما للحكم أو مضمونا عقديا/أيديولوجيا ولذلك من الخطأ مثلا الحديث عن «فكر قومى» مقابل «فكر دينى»، بل يمكن القول «فكر علمانى» مقابل «فكر دينى»، تماما كالمقابلة بين «فكر محافظ» و«فكر ليبرالى»، و«فكر اشتراكى» مقابل «فكر رأسمالى».. وكلها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكرى وسياسى تصلح الدعوة إليه فى أى بلد أو أمة، فى حين يجب أن يختص تعبير «الفكر القومى» فقط بمسألة الهوية كإطار أو كوعاء ثقافى ولذلك أيضا، يكون تعبير «العروبة» هو الأدق والأشمل حينما يتم الحديث عن القومية العربية حتى لا تختلط مسألة الهوية الثقافية المشتركة بين العرب بقضايا المناهج والأيديولوجيات المتنوعة داخل الفكر العربى ووسط المفكرين العرب.
إن الشخص العربى هو الإنسان المنتمى للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية فالهوية العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسى أو منظور أيديولوجى. والعروبة تعبير عن الانتماء إلى أمة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتى فى دائرة العالم الإسلامى فالانتماء إلى العروبة يعنى الانتماء إلى أمة واحدة قد تعبر مستقبلا عن نفسها بشكل من أشكال التكامل أو الاتحاد بين بلدانها.
إن «الهوية الثقافية العربية»، لغة وثقافة، سبقت وجود الدعوة الإسلامية قبل 15 قرنا من الزمن، ولكنها كانت محصورة فى القبائل العربية فى شبه الجزيرة العربية، وفى الأصول العرقية للقبائل، وفى مواقع جغرافية محددة.. بينما العروبة ــ هوية انتماء حضارى ثقافى ــ بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بوساطة رواد عرب فهكذا أصبحت «العروبة الحضارية» هى الثقافة العربية ذات المضمون الحضارى الذى أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضارى الواسع الذى اشترك فى صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبذلك خرجت الهوية الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلى أو الإثنى، ومن محدودية البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتسع فى تعريفها لـ«العربى»، لتشمل كل من يندمج فى الثقافة العربية بغض النظر عن أصوله الإثنية.
ودخل فى هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من أصول عربية من ناحية الدم أو العرق.
ويؤكد هذا الأمر تاريخ العرب القديم والحديث من ناحية احتساب الأقليات الدينية فى المنطقة العربية نفسها جزءا من الحضارة الإسلامية، ومن ناحية تفاعل الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) مع الثقافة العربية باحتسابها ثقافة حاضنة لتعددية الأديان والأعراق.
فعسى أن نشهد قريبا ولادة حراك عربى جاد يحرص على الهوية الثقافية العربية ومضمونها الحضارى، وينطلق من أرضية عربية ووطنية مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة لا الانتماء الطائفى أو المذهبى أو الأصول الإثنية، وتستهدف الوصول ــ بأساليب ديمقراطية لا عنفية ــ إلى «اتحاد عربى ديمقراطى» حر من التدخل الأجنبى، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها كما تتساوى فى كل منها حقوق كل المواطنين.