الفقر مَلِكا.. وظالما مظلوما! - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 3:05 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الفقر مَلِكا.. وظالما مظلوما!

نشر فى : الثلاثاء 19 نوفمبر 2019 - 10:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 19 نوفمبر 2019 - 10:35 م

وأخيرا أصبح الفقر مَلِكا مُتَوّجا. باسمه تُدَبَّجُ الدراسات والأبحاث الدولية والمحلية، وعلى شرفه تُعقد المؤتمرات وتقام المآدب و تُشرَب الأنْخاب..! وتُقدّمُ بين قدميْه أرفع الجوائز الدولية حتى «جائزة نوبل فى علم الاقتصاد»، فلماذا؟
الحق أن فكرة «الفقر» نفسها كما تُتَداوَل بالفعل فى المنظمات الدولية راهنا، هى، بمعنى معين وإلى حدّ ما، قد يمكن أن تعتبر نبْتة من نبتات الفكر «النيوــ ليبرالى» السائد، كموْجة من موجات الفكر الاقتصادى الرأسمالى بوجه عام.. إنها الفكرة القائلة بأن هناك مجرد فقراء فى المجتمع يجب العناية بهم. ولكنها لا تقول الحقيقة الدامغة: إن المجتمع كله فقير، أو أن المجتمع ككل هو مجتمع فقير. وقد نبتت الفكرة لدى أصحابها أصلا بين جنبات العالم الصناعى الرأسمالى المتقدم، حيث تحققت عملية القضاء على الفقر بشكل عام، وفق التعريفات السائدة. وكان أن صعدت «دولة الرعاية الاجتماعية» ــ وخاصة فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ــ والمسماة بدولة الرفاهة، لتواجه بشكل مستمر بقايا وجيوب الفقر، التى تتسع أو تنكمش حسب اتجاهات الدورات الاقتصادية (التضخم، الانكماش، الانكماش التضخمى أو التضخم الركودى).
ورغم ضمور «دولة الرفاهة» فى الغرب الرأسمالى ــ أوروبا وأمريكا الشمالية ــ منذ أواخر السبعينيات من القرن المنصرم، على وقع صعود «الليبراليين الجدد»؛ فقد بقى العديد من برامج الرعاية الاجتماعية على قاعدة الإنفاق الاجتماعى الموسع، والموجّه إلى الإعانات والدعم السلعى (الغذائى) والخدمى (خاصة الصحى) للفئات الفقيرة والمعرضة للفقر: المتعطلون ــ ذوو الأجور المنخفضة، وخاصة من الجماعات المهمّشة ــ غير القادرين على الكسب بسبب العجز العضوى أو الشيخوخة، ومن إليهم.
وجريًا على سُنّة نقل مفاهيم الفكر الغربى إلى «العالم الثالث السابق» المتخلف اقتصاديا والنامى، فقد انتقلت إليه حملة مواجهة ذلك «الفقر» على نطاق واسع.. وإنها لحملة مغلوطة فلسفيا، كما ألمحنا، إذْ توجه جهودها لجماعات بعينها تسمى بالفقراء تارة، والمهمشين أو غيرهم تارة أخرى، وليس إلى جذور الفقر الكامنة فى أحشاء المجتمع نفسه، التابع للخارج من ثم بالضرورة.
***
وقد جرت الدراسات الإحصائية والكمية، والوصفية وكذا «المعيارية» من قبلها، وابتدعت ترسانة من الأساليب التقنية المخصصة لقياس الفقر. وكان الافتراض الكامن وراءها جميعا تحديد نطاق الفقراء، من خلال حبس مفهوم «الفقر» وراء أسوار جماعات اجتماعية بعينها تتفاوت عددا ونوعا حسب المجتمعات المتنوعة.
ولكن الحقيقة أن البلاد المتخلفة اقتصاديًا وتلك التى فى الدرجات الأوليّة من النمو والتنمية والنهوض الاقتصادى، وحيث تكوّن «التخلف» ــ بالمفهوم العلمى ــ للقارات الثلاث فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فى أحضان الظاهرة الاستعمارية الأوروبية فالغربية عموما طوال العصور الحديثة؛ هذه البلاد قد غدت من بعد حصولها على الاستقلالات السياسية، تعانى من أمريْن:
1ــ انخفاض مستوى المعيشة الاجتماعية عموما، أو ببعض التعبيرات السائدة (انخفاض مستوى إشباع الحاجات الأساسية ومستوى الرفاهة ونوعية الحياة).. ويصل الاهتمام الدولى حاليا إلى فئات اجتماعية معينة كبيرة العدد وثقيلة الوزن النسبى، وهذه هى الفئات التى تركز عليها دراسات الفقر وتعتبرها هى الفقراء، لعدم القدرة على إشباع حاجاتها الأساسية بدءًا بالغذاء وانتهاءً بسلّة الحاجات الأخرى.. فى حين أن نسبة الذين لا يمكنهم إشباع حاجاتهم الإنسانية الأساسية فى البلاد المتقدمة نسبة ضئيلة وغير قابلة للمقارنة مع المجتمعات فى العالم المتخلف والنامى.
2ــ تزايد درجة عدم العدالة فى التوزيع للناتج الاجتماعى فى المجتمعات النامية والمتخلفة اقتصاديا، بأكثر مما فى الدول المتقدمة لأسباب متعددة، فى طليعتها طبيعة الميزان الطبقى فى هذه الدول والذى يتسم بارتفاع مستوى القوة السياسية والنقابية للطبقة العاملة، وقدراتها العالية نسبيا فى ميزان المساومة السياسية وتوازنات السلطة وعملية اتخاذ القرارات، وكذلك القوة الاجتماعية للطبقة المتوسطة، كطبقة عريضة متماسكة، تمثل حصة نسبية يعتد بها فى البنيان الاجتماعى.
فى ضوء ما سبق، نجد أن معظم سكان المجتمعات المتخلفة اقتصاديا والتابعة للخارج إلى حد بعيد، وعديد البلدان الأخرى من (العالم الثالث السابق) القابعة على الدرجات الأولى من النمو والتنمية بالذات، هؤلاء هم من الفقراء. نقصد هنا الأغلبية الساحقة وليست مجرد الأغلبية المطلقة (50% فأكثر) أو الأغلبية النسبية (صاحبة أكبر حصة بالمقارنة مع الآخرين أيا كانت الحصة). إنها أغلبية الثلثين وأكثر، نحو 80 ــ 90% من السكان. وفى داخل الفقراء، الذين هم غالبية المجتمع توجد مستويات متعددة: قليلو الفقر، ومتوسطو الفقر، والأشد فقرا.
والأشد فقرا هم الذين يستطيعون بالكاد إشباع حاجاتهم الغذائية الدنيا وحيث يمكن تسميتهم بالمُمْلقين أو الفقراء المدقعين، ومن هم ــ بالتعبير التراثيّ ــ «المساكين»، ويكمنون فى قاع المجتمع من حيث «قلّة الحيلة»، لأسباب متعددة. أما قليلو الفقر فهم الذين يشبعون بالكاد قدرا من احتياجاتهم الأساسية الدنيا (غذائية وغير غذائية). أما متوسطو الفقر فهم الذين يشبعون احتياجاتهم الغذائية، وقدرا معينا من الاحتياجات غير الغذائية. وكلهم فقراء.. وفى مواجهة الفقراء هناك الأغنياء أو الأثرياء بمستويات متباينة على قمة هرم الدخل والثروة، ومعهم ــ على درجة أدنى ــ أقلية نسبية من بعض أبناء الشريحة العالية من الطبقة المتوسطة. و«ينحشر» بين الطرفين بعض من الشريحة المتوسطة للطبقة المتوسطة. ويشكل الأثرياء فى المجتمع المعنيّ، وبالمفهوم النسبى دائما، قلّة تواجه «الكثرة» الفقيرة فقرا مطلقا أو نسبيا. هى قلة ارتفعت فوق مستوى الحاجات الضرورية وأشبعت بدرجات متفاوتة، حاجات كماليّة، أو ترفيّه، تفوق طاقة المجتمع على الإنتاج.
تأسيسا على ما سبق، ينبغى أن يكون الهدف المجتمعى الثابت هو: محاربة الفقر حتى نهايته المفتَرَضة (لو كان الفقر رجلا لقتلْتُه) أى تصفيته، القضاء عليه نهائيا، أو استئصال شأفته.
وإن محاربة أو تصفية الفقر تتحقق بالعدالة الاجتماعية الناجزة، تلك القائمة على إعادة توزيع الثروات والدخول، ولكن ابتداء من درجاتها الأدْنَى ممثلة فى كلّ من «الإنصاف» من ناحية أولى، عبْر منظومة الضريبة والدعم العمومى وسياسة الأجور وضبط الأسواق، ثم، من ناحية ثانية، عبْر المساواة أو التكافؤ فى الفرص بين الجميع.
وتتطلب مهمة تصفية الفقر هذه إنجاز «التحول الهيكلى» للاقتصاد الوطنى، مع مراعاة منح الأولوية للقطاعات الأعلى إنتاجية ــ الصناعة التحويلية والخدمات العلمية والتكنولوجية ــ وللقطاعات الموجّهة لإشباع الاحتياجات الاجتماعية الأساسية.
والخلاصة هنا أن الفقر، وهو جوهر المشكلة الاجتماعية، ليس هو جوهر المشكلة الاقتصادية فى حد ذاتها بالضرورة، وإنما هو مظهر الفشل فى حلها، ومحصلتها النهائية، فهو رهين الخلل والتشوّه فى هياكل الإنتاج وتوزيع الدخل والعلاقات الخارجية.
***
إن الفقراء ليسوا فقراء لأنهم فقراء، أى أنهم ليسوا فقراء بما هم كذلك، وهم ليسوا فقراء لأنهم منخفضو الدخل وقليلو فرص العمل، وإنما هم فقراء لأنهم محرومون من العدل، العدل المرتبط بالتحول الهيكلى الصحيح وبالاستقلالية الحقيقية فى خضم النظام الدولى القائم.
بعبارات مرادفة، الفقر هو ذلك المظهر المتصل بمستوى المعيشة مقيسا بمؤشر متشعب من وسائل العيش ووسائل الكسب ووسائل التحسن البشرى ووسائل الرفاهة أو الاستمتاع الحيوى. ولن يتحقق القضاء على الفقر إلا إذا حاربنا جذره الحقيقى أى «الظلم الاجتماعى»، بمعنى عدم التكافؤ بين الجهد والعائد، وعدم توفير فرصة العمل المناسبة بالمعنى الشامل للكلمة. وإن المجتمع العادل على هذا النحو، هو المجتمع المحقِّق للقضاء على الفقر، بدءًا من تصفية «الإملاق» لدى الفقراء المدقعين و«المساكين».
وهنا نصل إلى (مربط الفرس): ضرورة أن ترتبط البرامج الموجهة نحو (استئصال شأفة الفقر) بالتحول الهيكلى للاقتصاد الوطنى، وفق ما أشرنا، وبالتحسين المتواصل لمستويات معيشة الأغلبية الاجتماعية. هذا يعنى فيما يتصل بالأجليْن القصير والمتوسط، ما يأتى:
أولا: خلق فرص العمل وتحسين الدخول من خلال الأنشطة عالية الإنتاجية بالمدلول الاقتصادى ــ الاجتماعى (لا بالمدلول المالى المباشر) ومن أجل رفع مستويات المعيشة الاجتماعية، وذلك من خلال: 1ــ تنمية الأنشطة السلعية، الزراعة والصناعة التحويلية بصفة أساسية. ويراعى فى كل من الزراعة والصناعة اختيار الأنشطة الأعلى إنتاجية بالمدلول الاقتصادى ــ الاجتماعى، أى أنشطة التنمية الريفية والصناعية القائمة على التطوير التكنولوجى وزيادة الغلّة، للمنتجين الصغار الريفيين والحضريين، والمتوسطين.
2ــ أنشطة الخدمات الإنتاجية، وهنا نجد من الضرورى اختيار الأعمال الأكثر ارتباطا بالأنشطة السلعية السابقة، بما فى ذلك بعض الخدمات التجارية والمالية والتخزينية والاتصالية.. وإلا ستكون أنشطة غير منتجة أو ذات طابع «ريْعى» حين تركز على التكاثر المالى فى المحل الأول.
3ــ الخدمات الاجتماعية الرئيسية، وفى مقدمتها التعليم والصحة، التى ترتبط بخدمة الغالبية الاجتماعية. ويلاحظ هنا أن أنظمة التعليم فى عديد البلدان النامية تتّسم بالتحيز نسبيا للتعليم الأساسى دون مدّه إلى التعليم الثانوى (الشامل للبعديْن العام والتقني) كتعليم إلزامى بالضرورة، كما أنه متحيز نسبيا أيضا، من ناحية التمويل بالذات، للتعليم الجامعى الذى تستفيد منه الجماعات الأعلى دخلا، ولا يستفيد منه، بنفس الدرجة، الفقراء أو الجماعات الأدنى دخلا. أما الخدمات المصنّفة بأنها غير إنتاجية مثل الأمن والإعلام والثقافة والإدارة الحكومية فهى تحتاج إلى نظرة تنموية أيضا، تتفاوت من مجتمع إلى آخر.
ثانيا: توسيع وتعميق منظومة التكافل الاجتماعى للمملقين وللفقراء المدقعين، فى الإطار النظامى بمدلوله المجتمعى الرحيب.
هذا كله عن الأجل القصير والمتوسط، أما عن الأجل البعيد فحدّث ولا حرج، حيث التنمية العادلة ذات النزعة الاستقلالية الحقيقية. حينذاك يسترد الفقر عرشه المفقود، إذْ هو ظالم يُفقِد الإنسان إنسانيته، وهو مظلوم فى أتون السياسات «الليبرالية الجديدة»؛ وحيث لا مناص من القفز فوق الأسوار السميكة التى شيدها تاريخ طويل.

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات