أخذنى نشر تقرير لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكى الأسبوع الماضى، حول أساليب الاستجواب والتعذيب التى مارستها وكالة المخابرات المركزية CIA بحق السجناء بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، إلى زيارة قمت بها مع عدد من الصحفيين إلى معتقل جوانتانامو قبل نهاية عام 2009.
ضمت جوانتانامو حينذاك أربعة معسكرات اعتقال، وضم فريق العمل الخاص بهم ما يقرب من 2000 شخص منهم 1740 عسكريا وما يقرب من 50 مدنيا، إضافة إلى 210 من المتعاقدين مع وزارة الدفاع. وانقسمت معسكرات الاعتقال داخل جوانتانامو إلى ثلاثة أنواع حسب درجة خطورة المعتقل. وبلغ عدد المعتقلين فى فترات سابقة أكثر من 800 معتقل واليوم وصل العدد إلى ما يقرب من 120 معتقلا.
تضمن برنامج الزيارة كل شيء يمكن القيام به إلا شيئا واحدا وهو التحدث مع المعتقلين. وكما جاء تقرير مجلس الشيوخ ناقصا أى توثيق لما جرى على لسان ضحايا التعذيب أنفسهم، لم نتمكن من الحديث مع أى معتقل. ورغم أهمية ما جاء فى التقرير وكونه يستحق النشر، إلا أن عدم السماح للمعتقلين بالأدلاء بشهاداتهم يجعله تقريرا مليئا بالثغرات، لأن ضحايا التعذيب لم يلتقِهم محققو لجنة الاستخبارات فى مجلس الشيوخ، ولم يقيم التقرير أساليب الاستجواب المثيرة للقلق.
وخلال زيارة جوانتانامو شدد مشرف العمليات الأمنية فى المعتقل خلال الزيارة على أنه على من يرغب فى تصوير أى من المعتقلين أن يقدم طلبا مكتوبا يوضح فيه الهدف من الصورة وكيف تخدم مادته الصحفية. وحسب التعليمات التى اتبعت معنا يحظر أى تصوير أو تسجيل للمعتقلين، ويسمح فقط بتصوير الجزء الأسفل من جسم المعتقل ولا يسمح بإظهار الوجه حتى لا يمكن تحديد هوية المعتقل. على الجانب الآخر تم إخطارنا أنه من المحظور على مسئولى المعسكر وحراسه الخوض فيما يتعلق بأسلوب التحقيقات أو المعلومات الاستخباراتية التى تم الحصول عليها من المعتقلين. وتم التأكيد على أنه ستجرى مراجعة يومية لما يتم التقاطه من صور.
•••
أشار تقرير مجلس الشيوخ إلى اتباع سى آى إيه أساليب متطورة فى التعذيب تتعدى صفات القسوة والإرهاب من أجل انتزاع معلومات بالقوة من المعتقلين المتشكك فى انتمائهم لتنظيمات إرهابية دولية. وليس بالغريب أن يخرج علينا منذ أيام نائب الرئيس الأسبق ديك تشينى ليدافع بقوة عن برامج التعذيب وعن من قام بها من رجال المخابرات الأمريكية. وقال تشينى، الذى كان يتحدث فى برنامج (Meet the Press) وبث يوم الأحد الماضى، «لا مانع لدى أبدا من أن يحصلوا على الثناء أو أن يكرموا بمنحهم أوسمة»، مضيفا «أنا مستعد لأكرر ما فعلوه فورا». ووصف تشينى التقرير بأنه «فظيع ومليء بالهراء». كما دافع قبل ذلك الرئيس الجمهورى الأسبق جورج دبليو بوش عن القائمين على أجهزة الاستخبارات واصفا إياهم بالأبطال، رغم أنه ليس للبطولة دخل فيما قاموا به من تصرفات داخل غرف الاستجواب. وتظهر هذه التجربة أوهاما تتعلق بوجود «قانون دولي». فما نحن إزائه هو توازن للقوة لا يسمح من خلال آليات (القانون الدولي) أن يخضع أى من الأطراف القوية للمساءلة الدولية. وما يستخدم فيه القانون الدولى هو ممارسات ضد من ينتهك الأسس والأنماط التى يضعها الأقوياء، وجزء من هذا جيد والجزء الآخر شديد السوء.
•••
يدرك العالم منذ وقت طويل أن الحكومة الأمريكية ظلت تعتقل وتعذب السجناء بطريقة غير مشروعة حتى قبل وقوع هجمات 11 سبتمبر. إلا أن المثير للاشمئزاز أن أحدا لم يخضع من المسئولين عن تلك الجرائم للمساءلة سواء من داخل جهاز الاستخبارات أو من الإدارة الحاكمة. وتخلص مسئولى السى آى إيه من أشرطة الفيديو التى توثق أساليب التعذيب بالغمر بالماء وغيره من الأساليب القذرة، ولم ينل أحد منهم أى عقاب، ولليوم فشلت كل المحاولات الرامية لتقديم مرتكبى تلك الجرائم للمحاكم بذريعة حماية اسرار الأمن القومى الأمريكى. ولا يجب أن ينسينا هذا التقرير وتداعياته أن شبكة الدول التى تعاونت مع واشنطن فى هذا المجال كانت كبيرة من خلال شبكات دولية من السجون السرية. ومن المؤكد أن الكثير من الممارسات التى كشفتها منذ عامين منظمة «مبادرة عدالة المجتمع المفتوح» الأمريكية فى تقرير مهم لها أن حكومات 54 بلدا أجنبيا، منها 25 دولة أوروبية، شاركت فى برنامج الاستجوابات السرية بأساليب مختلفة بما فى ذلك فتح سجون سرية على أراضيها والمساهمة فى القبض على المشتبه بهم ونقلهم واستجوابهم وتعذيبهم وتقديم المعلومات الاستخباراتية للأمريكيين، وفتح مجالها الجوى للرحلات السرية.
وأورد تقرير المنظمة حالات 136 ضحية معروفين تم احتجازهم سرا قائلة إن «المسئولية عن الانتهاكات لا تقع فقط على عاتق الولايات المتحدة ولكن أيضا على عاتق عشرات من الحكومات الأجنبية التى كانت متواطئة معها».
•••
من ناحية أخرى لا يجب أن ينخدع أحد ويعتقد أن ما جرى هو حكر على الإدارات الجمهورية. ففى عام 1995 وقع الرئيس الأمريكى الديمقراطى الأسبق بيل كلينتون يوم 21 يونيو مرسوما رئاسيا للسماح لوكالة المخابرات الأمريكية CIA أن ترسل مشتبهين بالإرهاب لدول أخرى من ضمنها مصر لاستكمال التحقيقيات اللازمة. وطلبت واشنطن من هذه الحكومات تطمينات بعدم تعرض المعتقلين للتعذيب أو لأساليب غير إنسانية، وتعهدت الدول جميعها بذلك! إلا أن أهم ما كشفت عنه الأحداث الأخيرة، ومن قبل ذلك كشفه تقرير «مبادرة المجتمع المفتوح» من استمرار برامج الاستجوابات السرية فى العديد من دول العالم، وبمشاركة أمريكية، حتى يومنا هذا.