أحسن صُنْعا صديقنا د. جودة عبدالخالق حينما كرر الإشارة فى مداخلات عديدة إلى المادتين رقم (18و 28) من (اتفاقية التعريفات الجمركية والتجارة العالمية) واللتين تسمحان لمصر ــ ومن فى مثل حالتها ــ باتخاذ الإجراءات الضرورية والكافية لحماية منتجاتها الصناعية المحلية. فى المقابل، أبدى وزير الصناعة والتجارة الخارجية اعتراضه أكثر من مرة على فكرة استخدام «الرخصة» التى تتيحها اتفاقات التجارة العالمية من أجل وضع وفرض تطبيق إجراءات الحماية الجمركية وغير الجمركية للصناعة المصرية. فأين الحقيقة؟ وإن لهذا الموضوع فى جانبه العلمى قصة قصيرة يحسن أن تروى، ولو من زاوية شخصية. إذْ على الرغم من أننى عملت من الناحية البحثية لهذا الموضوع لفترة طويلة نسبيا فى السابق، فقد تبادر إلى الذهن أول وهلة أن المادتين المذكورتين المتعلقتين بحق الدولة فى حماية إنتاجها المحلى، يقعان فى صلب الاتفاقات المذكورة لعام 1994 أو فى (اتفاق السلع) الذى هو أحد تلك الاتفاقات الأساسية المنبثقة عن المفاوضات المسماة بجولة أوروجواى، والتى أفضت إلى إنشاء منظمة التجارة العالمية كما هو معروف.
فلما تصفحت الاتفاق المنشئ للمنظمة و(اتفاق السلع) بعناية، لم أجد ذكرا للمادتين. ولكن وجدت إشارة صريحة فى ديباجة (اتفاق السلع) إلى الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة لعام 1947 باعتبارها جزءا لا يتجزأ من مجموعة اتفاقات 1994 والتى سميت (جات 1994). فلم أجد بدا من محاولة العودة إلى اتفاق 1947، ولم أجده لأول وهلة ــ عبر البحث بمحرك جوجل باللغة العربية ــ وسرعان ما وجدت نصه الأصلى باللغة الإنجليزية.
كم كانت فرحتى ودهشتى البالغتين حينما وجدت فى المادتين رقمىْ 18و 28 من (جات 1947) كنزا قانونيا هائلا يمنح للمشّرع الوطنى وراسم السياسة الاقتصادية سندا أىّ سند لحماية الإنتاج المحلى ضد كل ما من شأنه أن يضر بالمنتجين الصناعيين والزراعيين ومنتجى الخدمات على اختلافها، مالية كانت أو متعلقة مثلا بالنقل البحرى والاتصالات عبر الشبكات وغيرها كثير.. فماذا تقول المادتان ــ وفق ترجمتنا لهما ــ وخاصة المادة 18؟ يجرى النص الرئيسى للمادة 18 كالتالى، ونورده كاملا لإتمام الفائدة ومزيد الإيضاح، تحت العنوان الرئيسى «المساعدة الحكومية للتنمية الاقتصادية»:
1 ــ تؤكد الأطراف المتعاقدة أن تحقيق أهداف هذه الاتفاقية يمكن تيسيره عن طريق التطوير المتقدم لاقتصاداتها، وخصوصا تلك الأطراف التى لا تسمح إمكانياتها الاقتصادية إلا بمستويات منخفضة من المعيشة ولا تزال فى مراحلها الأولى من التنمية.
2 ــ تؤكد الأطراف المتعاقدة، أكثر من ذلك، أنه يمكن أن يكون من الضرورى لها ــ من أجل تطبيق برامج وسياسات التنمية الاقتصادية الهادفة إلى رفع المستوى العام للمعيشة لشعوبها ــ أن تتخذ إجراءات حمائية، وغيرها، ذات تأثير على الواردات، وذلك فى حدود ما تسهّل به تحقيق أهداف هذه الاتفاقية.
وتوافق الأطراف المتعاقدة، من ثم، على أنه من اللازم أن يتوافر لديها من الأدوات (أو التسهيلات) الإضافية ما يمكّنها من:
(أ) أن يكون لديها مرونة كافية فى هياكل التعريفة الجمركية بما يمكّنها من تقديم الحماية الجمركية المطلوبة لتأسيس الصناعة الخاصة بها.
(ب) أن تطبق القيود الكمّية لأغراض توازن ميزان المدفوعات بطريقة تأخذ فى اعتبارها الكامل المستوى المستمر والمرتفع للطلب على الواردات والمتولّد بالذات من برامج التنمية الاقتصادية لديها.
***
3 ــ تؤكد الأطراف المتعاقدة أخيرا أنه فيما يتعلق بتلك الأدوات (أو التسهيلات) الإضافية المنصوص عليها فى القسمين (أ) و(ب) من هذه المادة، فإن نصوص هذه الاتفاقية كافية فى الأحوال الاعتيادية لمساعدة الأطراف المتعاقدة على مواجهة متطلبات التنمية الاقتصادية لديها. وتوافق الأطراف المتعاقدة مع ذلك على أنه قد يكون هناك من الظروف ما يؤدى إلى عدم قابلية التطبيق للإجراءات المتوافقة مع نصوص الاتفاقية، وبما يسمح لطرف متعاقد يمر بعملية التنمية الاقتصادية بأن يمنح الدعم الحكومى المتطلّب للمساعدة فى إقامة صناعات معينة على طريق رفع المستوى العام للمعيشة للشعب. ولمواجهة هذه الحالات، تم النص على إجراءات مخصوصة فى القسمين (ج) و(د) من هذه المادة.
4 ــ (أ) يترتب على ما سبق، أن الطرف المتعاقد الذى لا تمكنه قدراته الاقتصادية إلا من الوفاء بمستويات منخفضة للمعيشة، ولم يزل فى المراحل الأولى من التنمية، سوف يكون حرّا فى الخروج ــ بصفة مؤقتة ــ من نطاق نصوص المواد الأخرى فى هذه الاتفاقية كما هو مبين فى الأقسام (أ) و(ب) و(ج) من هذه المادة.
(ب) الطرف المتعاقد الذى يمر اقتصاده بعملية التنمية ولا يندرج فى نطاق الفقرة السابقة (أ) يمكنه أن يتقدم بطلبات أخرى للأطراف المتعاقدة ككل، تحت القسم (د) من هذه المادة.
5 ــ تؤكد الأطراف المتعاقدة أن متحصلات التصدير للأطراف ذات الاقتصادات الموصوفة فى القسمين (أ) و(ب) من الفقرة رقم (4) السابقة، والتى تعتمد على تصدير عدد قليل من السلع الأولية، هذه المتحصلات قد تنخفض بشدة نتيجة نقص المبيعات من هذه السلع. طبقا لذلك، فإنه حينما تتأثر صادرات السلع الأولية لمثل ذلك الطرف بالإجراءات المتخذة من طرف آخر، فإنه يمكنه اللجوء إلى النصوص الخاصة بالتشاور (بين الأطراف) وفق المادة رقم (22) من هذه الاتفاقية.
6 ــ سوف تتم مراجعة سنوية من قبل الأطراف المتعاقدة لكل الإجراءات المطبقة تبعا للقسمين (ج) و(د) من هذه المادة.
***
نعتذر عن الإطالة بإيراد نص المادة رقم (18) كاملا (بدون ملحقاته أ، ب، ج، د)؛ وفيما يلى نورد الفقرة الأولى فقط من المادة (28) مع التصرف:
المادة (28):
تعديل جداول (التخفيضات الجمركية)
Modification of Schedules
من حق الطرف المتعاقد ــ فى حالات معينة وبشروط محددة ــ والذى قدم امتيازات لطرف أو أطراف أخرى، أن يعدل أو يسحب الامتيازات المتضمنة فى الجدول المناسب من ملاحق هذه الاتفاقية.
هذا ــ وفضلا عما سبق، مما هو مذكور فى الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة لعام 1947 والمدمجة فى الاتفاقات المنشئة لمنظمة التجارة العالمية لعام 1994 ــ وتسمح الاتفاقات الأخيرة ، فى عديد من المواد، للدول المعنية، باتخاذ إجراءات وقائية مع طلب التعويضات المناسبة، بالإضافة إلى اللجوء إلى آلية المشاورات أو تقديم شكاوى مشفوعة بطلبات لتسوية المنازعات.
يتم ذلك فى حالة تضرر الدولة من جراء الممارسات المقيدة لحرية التجارة كما فى حالة إعاقة المنافسة عن طريق الدعم الحكومى للمشروعات القائمة بالتصدير إلى العالم الخارجى أو التشدد فى المواصفات الفنية والاشتراطات الصحية والبيئية.
***
لذلك كله، يبدو الإصرار المعلن والمتكرر لوزير الصناعة والتجارة على عدم اتخاذ إجراءات حمائية للمنتجات الصناعية المصرية أمرا غير مفهوم. وهذا ما دفعنا ــ ودفع الكثيرين ــ إلى توضيح الرأى العلمى حول هذه القضية أمام الرأى العام صاحب الكلمة الفصل فى هذا الموضوع المهم، من وجهة النظر التنموية الوطنية، والتطلعات المستقبلية لشعبنا.