نشر موقع 180 مقالا للكاتب توفيق شومان، يقول فيه إن العلاقة بين إيران وباكستان لطالما كانت وطيدة، وتمتعت الدولتان بحسن الجوار، كما أن ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، ناهينا عن أن تحدياتهما واحدة. لذا رأى الكاتب أن التوتر الحالى بينهما من غير المرجح أن يتصاعد، لأنه ليس فى مصلحتيهما، بل إنه حدث طبيعى فى العلاقات بين الدول، إذ تتعرض أحيانا للفتور والتوتر... نعرض من المقال ما يلى:فى المبدأ، لا تخلو علاقات دولتين جارتين من صعود وهبوط، أو برودة وسخونة، وهذا ما ينطبق بالإجمال على العلاقات الإيرانية ـ الباكستانية، إلا أن السؤال المطروح فى هذه الأيام: هل يمكن أن تتوسع دائرة التوتر بين طهران وإسلام آباد لتصل إلى مواجهة أو نصف مواجهة أو حتى إلى الربع؟
• • •
ليس فى تاريخ العلاقات الإيرانية ـ الباكستانية مواطن لمرارات وصراعات حتى تستحضر لحظة التوتر الحالية «الذاكرة المشتعلة»، فمنذ استقلال باكستان عن الهند عام 1947، سارت عجلة العلاقة بين الطرفين على جادة شبه مستقيمة، كان يتخللها بطبيعة الحال متعرجات ونتوءات، سرعان ما كان يصار إلى احتوائها، لتعود معادلة حسن الجوار إلى جادتها المطلوبة.
حين استقلت باكستان، كانت إيران فى طليعة الدول التى اعترفت بالدولة الوليدة المنفصلة عن الهند، وحين أسقط الإيرانيون نظام الشاه عام 1979، كانت باكستان من أوائل الدول التى اعترفت بالنظام الإسلامى الجديد.
هذان المفصلان التاريخيان، لا يمكن فصلهما عن مسار العلاقات بين طهران وإسلام أباد، كما لا يمكن فصل منعطفات الحروب الضروس التى تعرض لها البلدان عن طبيعة العلاقة الثنائية بينهما، فإيران وقفت إلى جانب باكستان فى الحربين اللتين خاضتهما الهند ضد «الدولة المنشقة» فى عامى 1965 و1971، بحيث أدت الحرب الثانية إلى انفصال بنجلادش عن باكستان، ولولا الموقف الإيرانى آنذاك، لكانت الهند تابعت مسيرة تفتيت باكستان من خلال محاولتها «تثوير» قومية البلوش ودفعها إلى الانفصال عن الدولة الباكستانية كما كانت الحال مع إقليم البنغال المتحول إلى دولة بنجلادش.
• • •
فى المقابل، كان الموقف الباكستانى أقرب إلى إيران خلال الحرب مع العراق، والتى امتدت ثمانى سنوات (1980 ـ 1987)، فباكستان لم تغفر للعراق دوره فى تمويل وتسليح أقلية البلوش منسقا ومتفاعلا مع عدوها اللدود الهند، ولذلك شكلت باكستان مصدرا من مصادر إيصال العتاد والسلاح إلى إيران المحاصرة آنذاك، وأكثر من ذلك، ثمة من يرى فى الدوائر الغربية أن العالم النووى الباكستانى عبدالقدير خان (1935 ـ2021) اضطلع بأدوار محددة فى تغذية روح التعاون العلمى بين الدولتين الجارتين.
وإذا كان من الثابت أن إيران الشاهنشاهية قد دخلت فى أحلاف ومواثيق مع باكستان، كما كان الحال مع «حلف بغداد» عام 1955، وحلف «السانتو» عام 1959، فإيران الإسلامية اتخذت من توطيد العلاقة مع الجار الباكستانى قاعدة فى سياستها الخارجية، خصوصا وأن سنوات ما بعد إسقاط الشاه شهدت انفجار العلاقة مع العراق إثر الحرب المعلنة عليها، فيما الحدود مع أفغاستان كانت هى الأخرى ملتهبة بفعل الغزو السوفيتى وردة الفعل الأفغانية ـ الدولية على الغزو، وفى الوقت نفسه، تموضعت العلاقات الإيرانية ـ الخليجية فى دائرة الاضطراب طوال عقد الثمانينيات وما بعده من القرن العشرين الماضى، لأسباب عدة من بينها الحرب العراقية على إيران.
إن الاجتياح السوفيتى عام 1979 لأفغانستان وحرب الخليج الأولى، دفعا إيران وباكستان للحفاظ على ثبات علاقاتهما واستقرارها، فإيران رأت أنه ليس فى صالحها أن تقف عند كل واردة أو شاردة من باكستان فيما أحزمة النار تحاصرها على الحدود العراقية ـ الأفغانية ـ الخليجية، وبعد ذلك أطلت عليها الحدود الآذرية بعدما رفعت أذربيجان إثر انهيار الاتحاد السوفيتى شعار «أذربيجان الكبرى»، فى حين أن باكستان رأت فى الغزو الأحمر لجارها الأفغانى، حربا ثالثة عليها يخوضها الروس المتحالفون مع الهند عدو باكستان الأبدى، فموسكو شاركت نيودلهى فى حربيها المذكورتين سابقا ضد إسلام آباد، وفى آليات التفكير الباكستانية حينذاك أن أى ترسيخ للنفوذ السوفيتى فى أفغانستان، سيلحقه حتما ترسيخ للنفوذ الهندى فى بلاد الأفغان، وهؤلاء ما انفكوا يطالبون بأراض وأقاليم باكستانية من ضمنها مناطق قبائل «البشتون» وفى صلبها مدينة بيشاور.
• • •
هذه المنعطفات التاريخية المتفاعلة إيجابيا بين إيران وباكستان طوال أكثر من سبعة عقود، لم تمنع حدوث اختراقات سلبية فى فضاء العلاقات، ففى منتصف الثمانينيات حين اشتدت «حرب الناقلات» بين إيران والولايات المتحدة، أصابت «الحيرة» الموقف الباكستانى فانتهجت إسلام آباد «سياسة رمادية» فلم تقف مع طهران ولم تذهب مع واشنطن، وحين شاعت روائح الدعم الباكستانى ـ الأمريكى لانطلاقة حركة «طالبان» عام 1994، وراحت تنتشر قواتها فى أنحاء أفغانستان كانتشار النار فى الهشيم، حافظت طهران على خطاب دبلوماسى معتدل تجاه باكستان، وحتى بعدما اغتالت «طالبان» طاقما دبلوماسيا إيرانيا فى مدينة مزار شريف الأفغانية فى الثامن من أغسطس 1998، وما أعقبه من حشود عسكرية إيرانية على الحدود مع أفغانستان قاربت 200 ألف ضابط وجندى، لم تذهب إيران إلى إطلاق خطاب صدامى ضد باكستان، على خلفية علاقة الأخيرة بحركة «طالبان».
• • •
بصورة عامة، لا تنظر باكستان إلى إيران كدولة معادية، ولم يحصل فى العقود السبعة الأخيرة أن اصطدمت باكستان مع إيران أو اقترب الطرفان من المواجهة، ولا تتنازع الدولتان حول حدود أو إقليم، كما أن العقل الاستراتيجى الباكستانى يعتبر الهند عدوا وجوديا، وهذا العقل ينظر إلى أفغانستان كمصدر تهديد أمنى مستدام، وفى الجانب الموازى، لا ترى إيران فى باكستان عدوا، فتحدياتها الأمنية تأتى من أفغانستان وأذربيجان، ومن الوجود الأمريكى فى الدول المحيطة بها، كما أنه لم يحدث منذ عام 1979 أن اتهمت إيران جارتها باكستان بالتدخل فى شئونها الداخلية، وهذا أمر ينطبق على باكستان أيضا، وزيادة على ذلك، ففى مجمل المواجهات الهندية ــ الباكستانية فى العقود الأربعة الفائتة، كان الخطاب السياسى والإعلامى الإيرانى أقرب إلى باكستان، برغم العلاقات الإيرانية ــ الهندية الجيدة.
ووفق هذه الصورة، من غير المرجح أن تتجه العلاقات الإيرانية ـ الباكستانية إلى موضع التفجير أو الانفجار جراء الحادثتين الأخيرتين المتمثلتين بالقصف المتبادل، إذ ليس من مصلحة الطرفين الاندفاع نحو التفريط بأمنهما القومى، أو التهاون بتاريخ طويل من انضباط العلاقات بينهما، وأما قضية قومية البلوش، فمن مصلحة الطرفين احتواؤها، ففى الدولتين أقليات بلوشية ولهذا الملف ما له، على جارى حكايات الأقليات فى العديد من بلدان العالم. كما أن المجموعات الانفصالية تشكل تهديدا مشتركا للبلدين.
وعلى هذه الحال، ثمة تقديرات بأن تتشكل على وجه السرعة، ملامح وبوادر «رأب الصدع» وبحسب تقديرات الضالعين فى شئون البلدين، ليس فى مصلحة كليهما استمرار التصعيد أو توتير حدود مشتركة طولها نحو 1000 كلم، أو أن يتواجه 340 مليون شخص (90 مليونا فى إيران و250 مليونا فى باكستان) فأى أرباح فى ذلك وأى مكاسب؟
لا أرباح ولا مكاسب من التصعيد، ولذلك، فالمتوقع أن يكون «الاحتواء سيد الأحكام» بل سيد الحكمة.. ومن أجدر من الصينيين بهكذا دور ربطا بمصالحهم الكبيرة فى كل من باكستان وإيران.
ختاما، يقول المثل الصينى: «ليس العطاء دائما بالمنح، بل أحيانا يكون بالمنع، فكتمان الغضب، وستر أسرار الناس، وكف اللسان، من أحكم أنواع العطاء»..
النص الأصلى: