عاشت مصر فى الأربعين سنة الماضية حالة غير مسبوقة من زيادة حضور الممارسات الدينية فى المجال العام والخاص. تركزت زيادة التدين فى الطقوس والرموز والأزياء ولم تنعكس على المعاملات والأخلاق التى يكاد الكل يجمع على أنها ليست على ما يرام. موضوع حديثنا اليوم ليس ترافق زيادة التدين مع فساد الأخلاق، فهذا أمر محسوم، وإنما التأثير بالغ الخطورة الذى أصاب المصريين فى اقتصادهم وسياستهم وفى استمتاعهم بالحياة جراء زحف أصولية دينية مسلمة ومسيحية اجتاحت مصر كما اجتاحت بلاد أخرى فى الشمال كما فى الجنوب. ولنبدأ بتأثير تلك الأصولية على الاقتصاد، أى أكل العيش، فهو عماد الحياة. أعتقد أن المعنيين بالفكر التنموى والممارسين له لن يختلفوا أبدا على أن التقدم الاقتصادى يحتاج إلى أفكار تقدمية مسهلة للخلق والعمل. لا أقصد هنا أفكارا أكاديمية بالضرورة، وانما قد تكون أفكارا شعبية هى عصارة تجربة شعب مثل شعبنا تجلت عبقريته فى الإنتاج، وخاصة فى الزراعة والعمارة والفن.
لن نختلف على أن الشعب المصرى شديد التدين، وشديد التسليم بالقضاء والقدر. وهذا التسليم يمثل بالطبع تحديا أمام أى نشاط اقتصادى. المصريون فى معظمهم يؤمنون أن نصيبهم من الرزق يحدده القضاء والقدر. ولكن فى نفس الوقت هم يدركون جيدا من واقع خبراتهم الحياتية أن «أكل العيش يحب الخفية»، وأن الأرض لا تفيض بالخير بدون أن ترتوى من عرق الفلاح. التحدى الذى يواجه المصرى هنا هو كيفية التوفيق بين إيمانه بأن الرزق مكتوب وبأنه فى نفس الوقت نتاج للعمل والعرق. ما تركه أجدادنا القدامى والمحدثون من عمل خلاق فى كل مناحى الحياة يشهد على أنهم نجحوا فى التوفيق بين الفكرتين فى أدمغتهم. ألم يكن المصريون يقولون ربنا قال «اسعى يا عبد وأنا أسعى معاك»؟ مشكلة أصحاب الفكر الأصولى مع هذه العبارة أن الرب لم يقلها فى النصوص المقدسة. «ربنا قال كده فين؟ فى القرآن الكريم، فى حديث قدسى؟»
هكذا صاح مستنكرا أحد أشهر الدعاة فى التسعينيات. والداعية هنا فى الحقيقة يصادر من الناس العاديين خلاصة الحكمة التى ورثوها من أجدادهم ويتركهم عراة. الناس عندما تؤكد أن ربنا قال كذا وكذا، هم لا يقصدون المنطوق الحرفى وإنما المعنى. ولكن لأن رأس المال الأساسى للداعية هنا هو أنه مطلع على النصوص الدينية أكثر من الآخرين فقد شن حرب مقدسة على ما يرى أنه بدعة دون أن يفكر لحظة فى أن هذه «البدع» هى طريق الناس فى التوفيق بين عقائدهم وحياتهم العملية. المذهل أن إزاحة الأصوليين للمفاهيم الشعبية الدينية فيما يخص العمل لم يترافق مع استدعاء النصوص الإسلامية الكثيرة المحفزة للعمل والعلم وعمارة الأرض. فهذه النصوص لا تُستدعى إلا للسجال مع «أعداء الاسلام» فى الخارج. الفكرة هنا هى أن الأصولية الدينية تعاملت مع الفكر الدينى الشعبى باستخفاف بسبب عدم مطابقته للنصوص. ونحن نعاين الآن نتيجة ذلك.
الأذى الذى ألحقته الاصولية بالفكر الاقتصادى الشعبى عند المسلمين أصاب المسيحيين فى فكرهم السياسى. فالنمو غير العادى فى التدين لدى المسيحيين ترافق مع انصرافهم عن السياسة. وعندما تسألهم عن ذلك يقول الكثير منهم «المسيح قال مملكتى ليست من هذا العالم». فالمسيحى الحق ـ وفقا لهؤلاء ـ يجب يكون مترفعا عن مملكة السياسة وما فيها من صراع على المصالح الدنيوية. ولكن السياسة كما فيها من الصراع فيها أيضا من التعاون، وهى فى النهاية الوسيلة التى من خلالها تُدير جماعة من الناس شئونها المشتركة. فكيف يستقيم حب الإنسان لإخوته بل وأعدائه أيضا مع انصرافه عن النشاط الوحيد الذى ينظم الناس من خلاله حياتهم المشتركة؟ هنا سيرد هؤلاء أن السياسة المصرية أصبحت طاردة لهم. ألم يقل السادات..
«أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة»؟ وكون السياسة المصرية أصبحت فى جزء كبير منها طاردة للمسيحيين كما هى طاردة لجماعات أخرى كثيرة فذلك لا يمكن لأى مراقب منصف أن ينكره. وهذا لا يعود بالضرورة إلى رغبة دفينة فى استبعادهم بقدر ما يعود أن إلى تواجد المسيحيين فى مساحة سياسية يتم تديينها أكثر فأكثر يثير مشكلات يرغب دعاة تديين السياسة أن يظلوا فى غنى عنها لأن الحل الحقيقى هنا سيكون العلمانية السياسية ولا شىء غيرها. ولكن القول بأن المسيحيين لا يشاركون لأنهم مستبعدون هو حق يراد به باطل. الحق أن ديانة غير المسلم تمثل عقبة إضافية أمام عمله السياسى بالإضافة إلى العقبات الأخرى التى يشارك فيها مواطنيه المسلمين. والباطل أن تهميش المسيحيين السياسى يعود إلى تلك العقبات وفقط.
فالحقيقة أن رجال الدين المسيحى فى معظمهم قد وفروا للمسيحيين الغطاء اللاهوتى لقبول تهميشهم بأن سكتوا عن تفسير مقولة «مملكتى ليست من هذا العالم» على اعتبار أنها تدعو المسيحيين إلى الاهتمام فقط بمملكة العالم الآخر وليس باعتبارها تقطع الطريق على وضع اسم المسيح على ممالك هذا العالم.
نفس الأذى الذى لحق بالاقتصاد والسياسة جراء التدين السلفى أصاب أيضا استمتاع المصريين بالحياة. فقد شن رجال الدين حملة شعواء على مقولة «ساعة لقلبك وساعة لربك» على أساس أن كل ساعات الانسان يجب أن يكون الله حاضرا فيها. وفى حقيقة الأمر أن مقولة «ساعة القلب وساعة الرب» لم تكن أبدا دافعة للازدواجية والتناقض. فهى لم تكن تدعو الناس أن يمارسوا فى ساعة القلب ما يخالف النواهى التى يستذكرونها فى ساعة الرب، وإنما كانت تشجعهم على الفصل بين وقت العبادة ووقت إشباع حاجات القلب. وبالمناسبة ساعة الرب فى الفكر الشعبى تشتمل على العبادة كما على العمل، لأن العمل فى النهاية محسوب من ضمن وقت العبادة. ألا نقول إن «العمل عبادة»؟
اليوم تداخلت المساحات والساعات، وهذا أهم ملمح للحياة المعاصرة فى مصر. فساعة الرب المخصص معظمها للعمل دخلت فيها العبادة، وساعة القلب اجتاحتها ساعة العبادة بحيث أصبحت ساعة ممسوخة لا هى عبادة ولا هى ترفيه. والمدهش أن الناس تظل تتساءل لماذا غابت الرومانسية عن حياتنا؟ لماذا زاد التجهم والاكتئاب؟ ولماذا يفتقد المصريون اليوم روح الدعابة؟ لماذا تتناقص النكات بشكل مستمر؟ والحقيقة أن إلقاء اللوم على مشكلات السياسة والاقتصاد لن ينفع، لأن الدعابة والفكاهة المصرية فى الأصل هى سلاح هذا الشعب العاشق للحياة ضد مشكلاته اليومية الاقتصادية والسياسية.
بالتأكيد تمدد المجال الدينى وطغيان دعاة التدين أصابنا بالاكتئاب. فساعة الرب بنصفها المخصص للعمل ونصفها الآخر المُكرس للعبادة هى ساعة الجدية والخشوع. أما ساعة القلب فهى ساعة المرح والترويح. والواضح اليوم أن نمو ساعة الرب لم تأكل فقط من ساعة المرح وانما هى قد أذت فى النهاية ساعة الرب، لأن من لا يعطى ساعة القلب حقها ليس بوسعه أن يدخل ساعة الرب وهو صافى الذهن ومتوقد الروح. ليس هناك من حل آخر سوى إعادة ترسيم الفواصل بين المساحات.
وليس هناك من شك فى أن الدفاع ساعة القلب هو دفاع عن روح هذا الشعب الذى دفعه عشقه الهستيرى للحياة إلى اختراع التحنيط، أى إلى الدخول فى مواجهة خاسرة مع فناء الجسد.
ما ذكرناه فيما سبق لم يكن إلا بعض الأمثلة التى تلخص التأثير السلبى الذى مارسه تمدد نسخة أصولية من التدين على حياة المصريين فى الاقتصاد والسياسة والترفيه. وبالطبع لا يمكن «تلبيس» مشكلات مصر كلها لتلك الأصولية. ولكن يمكن بكل أمانة ودقة القول بأن التدين الأصولى المتزايد فى الاربعين سنة الماضية لم يكن معينا للمصريين على مواجهة مصاعب الحياة وإنما كان جزءا أساسيا من تلك المصاعب وكان عائقا حقيقيا أمام حلها. هذا التمدد الأصولى انطلق بحجة حماية التراث، ولكن من الواضح اليوم أن هذه الأصولية قد أكلت من أحد أهم مكونات «تراث الأمة» وهو الدين الشعبى.