لا أذكر أن خبرا صحفيا استفزنى إلى درجة الغيظ فى السنوات الأخيرة مثل تصريح المهندس نصر علام وزير الرى الجديد بأن نظام المناوبات فى تزويد الترع والمساقى بمياه الرى انتهى فى مصر منذ مدة طويلة، وأن السبب فى ذلك هو سرقة البوابات الحديد للقناطر الفرعية فى أنحاء البلاد، بعد ارتفاع سعر الحديد الذى صنعت منه هذه البوابات، وعدم قدرة الوزارة على شراء بوابات بديلة، للسبب نفسه وهو ارتفاع الأسعار.
الشعور بالغيظ لم يكن بالقطع من الوزير، وإن كان يتحمل جزءا من مسئولية الاستسلام لهذا العجز من جانب الدولة أمام العصابات التى احترفت سرقة الحديد من المرافق العامة، كما يتحمل جزءا من المسئولية أيضا عن العجز عن توفير الموارد الكافية لإعادة تشغيل نظام الرى بالمناوبات، وكذلك توفير الحماية الكافية والرادعة لهذه الممتلكات العامة، وإذا كان الرجل لم يقر بهذا العجز صراحة، فإن سياق التصريح كله يعنى أنه لا يملك، ولا يرى حلا لهذه المشكلة.
قد تبدو القضية كلها بسيطة وربما تافهة فى نظر قليلى الخبرة بالريف المصرى، أو عند من لا يتعمقون فى فهم علاقة الدولة المصرية، بالنيل، ومن لا يدركون تفرد نظام الرى المصرى إلى حد العبقرية، ولكن تسليم الدولة بعجزها عن حل هذه المشكلة بالذات هو أحدث وأخطر برهان على أن مصر اقتربت كثيرا من أبواب نادى الدول الفاشلة، أى تلك الدول التى تنهار فيها السلطة العامة، وتعجز عن القيام بوظائفها التاريخية التقليدية والمستجدة. وإليكم الأسباب، والنتائج المتوقعة، ثم التفسيرات المحتملة..أو المؤكدة.
مصر هبة النيل هذه بديهية، لم يكشفها هيردوت وإنما يسجلها فقط، وأضاف إليها الراحل العظيم جمال حمدان بديهية أخرى، وهى أن النيل هو واهب نظام الدولة المركزية للجغرافيا المصرية، إذ كانت المهمة الأولى، أو لفعل كان مبرر وجود دولة بسلطة عامة مركزية فى مصر هو ضبط مياه النيل، وتنظيم وصول مياهه إلى كل شبر من الأرض المزروعة على جنبات الوادى وفى أطرافه، وعبر تاريخ طويل تراكمت خبرات هندسية جعلت مدرسة الرى المصرية هى الأكثر تفوقا فى العالم، بسبب بسيط هو أن شبكة الرى المصرية هذه بكل اتساعها لا تعتمد إلا على مصدر مائى واحد، أو على مجرى واحد هو نهر النيل، ومن هنا ابتكر مهندسو الرى المصريون نظام المناوبات منذ عهود سحيقة، وفكرته باختصار هى إغلاق مجارٍ بعينها فى جهة معينة، وفى وقت بعينه، لرفع منسوب المياه حتى يصل إلى جهات أخرى، وفى الوقت نفسه فإن هذا النظام يؤدى إلى ترشيد استخدام المياه، وقد بدأ تطبيق هذا النظام فى مصر الفرعونية حيث كانت تقام السدود المؤقتة على فروع النيل المتدفقة فى البحر المتوسط لكى يرتفع المنسوب ويغمر أراضى الحياض فى الصعيد ومصر الوسطى، وكذلك أطراف الدلتا، ثم امتدت التطبيقات لتشمل كل ترعة أو مروى صغيرة فى الشبكة كلها.
ويعلمنا التاريخ أن كل عصور الانحطاط فى مصر القديمة والوسيطة كانت تبدأ بعجز السلطة العامة عن إدارة نظام رى كفءٍ، ولعل بعض القراء يتذكرون على سبيل المثال ما تعلموه فى كتب التاريخ المدرسية فى المرحلة الابتدائية، أن الدولة الفرعونية القديمة انهارت عندما سدت الترع والمصارف وتحكم أمراء الإقطاع فى مياه الرى، حتى جاء أمننحات الأول، فالثانى، والثالث ليفرضوا سلطة الدولة، ويعيدوا لشبكة الرى فاعليتها، فتسجل جدران المعابد ذلك الشعار الخالد. لا جائع ولا عريان فى عهد أمننحات.
هل يكفى هذا المثل؟
إذا كان لا يكفى خذوا تجربة محمد على، واللورد كرومر فقد كانت النهضة الزراعية الصناعية فى عهد الأول، والزراعية المحضة فى عهد الثانى ثمرتان مباشرتان لتوسيع وإصلاح شبكات الرى فى أنحاء البلاد، ولم تكن المسألة كلها هندسة وحفرا، ومنشآت، ولكنها كانت أيضا مسألة إدارة حازمة، وقانون نافذ، وكان لمفتشى، ومهندسى، ومعاونى الرى سلطة الضبطية القضائية، وإزالة المخالفات، وفرض العقوبات، ولايزال كاتب هذه السطور يتذكر عبارات مثل: «هذه الشجرة ممنوع قطعها لأنها فى حرم الترعة ــ أكرر: حرم الترعة.. وإلا فإن هندسة الرى سوف تعمل لك محضرا.. وما أدراك ما المحضر وقت أن كان هناك إدارة وقانون بجد، وموظفون محترمون يسهرون على الإلزام والتنفيذ من أمثال عبدالعزيز باشا فهمى ذات نفسه الذى بدأ حياته العملية معاونا إداريا لمراقبة جسور وقناطر النيل.
وبعد.. هل انتهت الحاجة لنظام المناوبة فى الرى؟
من الواضح أنها أصبحت أكثر إلحاحا فى حضور الطلب المتزايد على مياه الرى فى وقت لا تزيد فيه الموارد المائية، ولا ينتظر أن تزيد فى المستقبل القريب، ومن الواضح أن ترك هذا النظام يموت بالإهمال والعجز جعل منسوب المياه فى كل الترع منخفضا، وحرم مناطق أطراف ونهايات الترع من المياه إلى حد يتسبب فى هلاك الحرث والنسل، فلماذا إذن تعجز وزارة الرى عن إسماع صوتها للدولة، وهى جزء منها، ولماذا تعجز الدولة عن سماع صراخ وزارة الرى؟. صحيح أن الدولة عاجزة عن سماع صراخ المواطنين من فوضى المرور، وعن سماع عويل الآباء، «والتربويين» على انهيار التعليم، وصحيح أن الدولة عاجزة عن منع انهيار الخدمات الصحية، وصحيح ثالثا أن الدولة ظلت تتجاهل احتياجات السكة الحديد حتى توالت الكوارث، وجعلتنا مثلًا أعلى للإهمال والعجز أمام العالم، كما استسلمت أمام عصابات سرقة أراضيها ولكن هذا كله شىء، ونظام الرى شىء آخر؛ لأنه يعنى ببساطة رغيف الخبز أو قطعة الجبن أو طبق الفول: أى الحد الأدنى من الطعام الذى يحفظ حياة غالبية المصريين من الموت جوعا، علما بأننا أصبحنا نعتمد فى نسبة كبيرة من كل ذلك على الخارج، ليس فقط بسبب تزايد السكان، ولكن أيضا بسبب انخفاض معدلات الإنتاج التى يتسبب انهيار نظام الرى فى الجزء الأكبر منها.
المحزن فى هذه القصة كلها أن هذه الدولة التى تعجز عن مواجهة عصابات سرقة حديد بوابات الترع، مثلما عجزت عن مواجهة عصابات سرقة قضبان السكك الحديدية إلى حد «سرقة قضبان بطول سبعة كيلو مترات فى خط التبين» مثلما نشر منذ بضعة أشهر.. هذه الدولة نفسها هى التى تحصى أنفاس المعارضين السياسيين المحتملين، وتعتقل فى الوقت المناسب لها من ترى أنه اقترب من تهديد نظام الحكم، وتوسع دائرة الاشتباه، وتضيقها كيفما تشاء.. لكن هذه الدولة التى تفعل ذلك تنسى أن المماليك انهمكوا فى صراعات على السلطة لعدة عقود فى أواخر العصر العثمانى، فكانت النتيجة أن انحصرت سلطتهم فى القاهرة وأحيانا فى القلعة وحدها وتركوا بقية مصر لحكم العصابات (المناسر) والفتوات فى ناحية، ولشيوخ الطرق الصوفية فى الناحية الأخرى، حتى جاءهم نابليون، ومن بعده محمد على.