عاصفة تغيير سياسي في بنجلاديش - رخا أحمد حسن - بوابة الشروق
الإثنين 16 سبتمبر 2024 10:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عاصفة تغيير سياسي في بنجلاديش

نشر فى : الثلاثاء 20 أغسطس 2024 - 6:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 20 أغسطس 2024 - 6:50 م

اشتهرت بنجلاديش بالعواصف والكوارث الطبيعية التى تقتلع الأشجار، وتهدم منازل الفقراء، وتقتل أعدادا كبيرة منهم، وتغرق المحاصيل الزراعية، وتدمر حياة كثير من الناس عديمى الحيلة الذين يعيشون على هامش المجتمع. ولكن هذه المرة، وقد لا تكون الأولى، هبت عاصفة سياسية قوية اتسمت بدرجات عنف عالية سواء من قبل المتظاهرين المحتجين على سياسات الحكومة، أو من الشرطة التى أفرطت فى استخدام القوة خاصة فى المراحل الأولى من الاحتجاجات التى كانت سلمية، وتصاعدت واشتدت وراح ضحيتها نحو 400 قتيل من بينهم 19 من رجال الشرطة، وحرق العديد من المقار الحكومية والإعلامية، ولم تهدأ الأوضاع إلا بعد استقالة رئيسة الحكومة الشيخة حسينة واجد، وهروبها إلى الهند.

وقد تفجر الموقف منذ بداية شهر يوليو 2024، عندما قررت الحكومة إعادة التوسع بالعمل بما يعرف بقانون المحاصصة الذى يعطى تميزا فى الوظائف المدنية لأبناء وأحفاد المناضلين من أجل استقلال بنجلاديش عن باكستان والذى تحقق فى عام 1971، وأصبحت النسبة المخصصة للأبناء والأحفاد تزيد على 50% من إجمالى الوظائف المدنية. وأدى ذلك إلى قيام الطلبة بمظاهرات احتجاج سلمية مطالبين بإلغاء هذا القانون الذى يميز فئة من أبناء الشعب على غير أساس المؤهلات والكفاءة ومستوى الأداء، دون مبرر مقبول، خاصة أن نسبة عالية من خريجى الجامعات لا يجدون فرص عمل تتناسب مع مؤهلاتهم، إلى جانب أن نحو 40% ممن تتراوح أعمارهم ما بين 15 إلى 24 سنة لا يعملون ولا يتلقون تعليما، ويوجد نحو 18 مليون شاب، أغلبهم خريجى جامعات، لا يجدون عملا.

وتصاعدت الاحتجاجات مع تزايد عنف الشرطة والجيش الذى نزل للشارع لقمع المحتجين الذين انضم إليهم العديد من فئات الشعب المختلفة، وكلما زاد عدد القتلى، زاد العنف والتخريب وإشعال الحرائق، وتدريجيا تحولت المطالب من إلغاء قانون المحاصصة إلى المطالبة باستقالة حكومة الشيخة حسينة واجد، بعد أن أمضت نحو 15 سنة متصلة رئيسة للحكومة، وكان قد تم إعادة انتخابها لفترة جديدة فى يناير 2024 دون معارضة تذكر.

• • •

ثمة عدة أسباب وراء تمسك الشيخة حسينة بمواقفها، وعدم اتباعها سياسة مرنة فى مواجهة احتجاجات بدأت سلمية، وبمطلب بسيط وهو إلغاء قانون المحاصصة. وتعتقد الشيخة حسينة أنها استطاعت خلال فترة توليها رئاسة الحكومة أن تحقق انتقالة ملموسة فى جميع المجالات فى بنجلاديش، حيث تحقق الأمن والاستقرار، بعد فترات من الاضطرابات والصراع على السلطة، وخفض ملحوظ فى مستويات الفقر وزيادة فى متوسط الدخل السنوى للفرد والذى زاد عن مثيله فى الهند فى عام 2022، وتقدم ملحوظ فى مجال الصناعة، خاصة صناعة الملابس الجاهزة والمنسوجات وبلغت صادراتها سنويا فى المتوسط نحو 40 مليار دولار أمريكى، وإقامة شبكة عريضة من الطرق والسكك الحديدية والمرافق العامة والكبارى، ونهضة ملحوظة فى التعليم والتنمية التى أخرجت بنجلاديش من فئة الدول الأكثر فقرا فى العالم. هذا إلى جانب إيمانها بأنها وأسرتها ورئاستها لحزب رابطة عوامى – أكبر الأحزاب السياسية – وريثة شرعية لدور أبيها الشيخ مجيب الرحمن الذى اضطلع بجهد كبير من أجل تحقيق استقلال بنجلاديش عام 1971، وأن خصومه لم يقدروا دوره وتضحياته فقاموا بانقلاب ضده فى عام 1975، وقتلوه و18 شخصا من أسرته بمن فيهم شقيقها الأصغر الذى كان عمره 10 سنوات، ولولا وجودها مع زوجها فى ألمانيا هى وأختها ريحانة، لكان مصيرهما القتل مع أسرتها. كما أن فوزها فى انتخابات يناير 2024 أعطاها مزيدا من الثقة بأن احتجاجات مجموعات من الطلبة يمكن إخمادها بالقوة.

ويلاحظ أن الشيخة حسينة لم تنتبه إلى أن سنوات حكمها الأخيرة قد أصابها كثير من العطب الذى تمثل فى بسط سطوتها وحزبها بيد حديدية أدت إلى اعتقال البيجوم خالدة بهاء، رئيسة الوزراء السابقة، ورئيسة حزب بنجلاديش الوطنى، أكبر أحزاب المعارضة، وتنتمى إلى أسرة لعبت دورا مهما فى استقلال بنجلاديش. ورغم أن الشيخة حسينة كانت قد تحالفت معها عندما عادت من أول لجوء إلى الهند بعد مقتل والدها مجيب الرحمن، إلا أنها رفضت الإفراج عنها والسماح لها بالعلاج خارج بنجلاديش، وهو ما أثار غضب قيادات وأعضاء حزب بنجلاديش الوطنى، وكان دافعا مباشرا لانضمامهم لاحتجاجات الطلبة التى تحولت إلى احتجاج عام. هذا إلى جانب انتشار الفساد والمحسوبية، وعدم الالتزام بتطبيق المعايير القانونية فى عدة مجالات.

ولعل من الأخطاء الكبيرة للشيخة حسينة ما تردد عن غيرتها الشديدة من الشعبية الكبيرة التى يحظى بها أستاذ الاقتصاد وصاحب بنك الفقراء فى بنجلاديش د. محمد يونس، الذى أنشأ تجربة فريدة فى العالم كله استحق أن ينال عليها جائزة نوبل، والعديد من الجوائز والتكريم الدولى، وتخطت شهرته كل الحدود. وتقوم فكرة بنك الفقراء على إقراض مبالغ صغيرة للغاية للفقراء والمتسولين، تكفى لعمل مشروعات متناهية الصغر يكسبون منها ما يكفى لعيشهم ويرفع مستواهم. والقروض بدون أى ضمانات سوى التزام بإعادة القرض دون أية فوائد عندما تتيسر لديهم القدرة على ذلك دون تحديد مدة. وقد لقيت فكرة بنك الفقراء معارضة شديدة، بل وسخرية، من رجال البنوك والمال. ومع ذلك حقق بنك الفقراء نجاحا باهرا، وأصبح د. محمد يونس أيقونة شعبية فى بنجلاديش. وقد تم توجيه مائة تهمة إليه بمخالفة القوانين والقواعد المالية وحكمت المحكمة الابتدائية عليه بالحبس مع وقف التنفيذ مما اضطره إلى الخروج من بنجلاديش إلى منفى اختيارى تجنبا لمطاردة الشيخة حسينة له. ولا شك أن هذا الموقف قد دفع كثيرين من محبى د. محمد يونس، وممن يدينون بالفضل له، إلى المشاركة فى الاحتجاجات والمطالبة باستقالة رئيسة الحكومة.

كما أن طول بقاء الشيخة حسينة رئيسة للحكومة على مدى 15 سنة فى نظام برلمانى تختص فيه الحكومة بالسلطة التنفيذية، حيث إن سلطات رئيس الجمهورية محدودة للغاية ومعظمها مراسمية، استنفذ ما لديها من مبادرات تساير ما حدث من تطورات سواء داخل بنجلاديش أو فى إقليمها والعالم، والاعتقاد بأن ما تحقق يكفى وزيادة، أى حالة من الرضا بما تم إنجازه، دون الأخذ فى الاعتبار أن الارتفاع النسبى لمستويات المعيشة والتعليم والسماوات الإعلامية المفتوحة على العالم، يفتح المجال لمزيد من المتطلبات نحو ما هو أفضل، ويزيد الوعى العام بالحقوق والواجبات، ويضعف بالضرورة فكرة الحكم بالوراثة.

لذا، عندما اجتمعت الشيخة حسينة بقادة الجيش والشرطة وطلبت منهم العمل بقوة على إخماد الاحتجاجات أوضحوا لها أنه لا سبيل لذلك، وأنه ليس أمامها إلا الاستجابة لمطلب المحتجين، وهو الاستقالة، تطلب ذلك تدخل أسرتها خاصة ابنها ساجيب واجد جوى، الذى كان مستشارا رسميا لها، وأقنعوها بالاستقالة ومغادرة البلاد إلى الهند حرصا على سلامتها. وقد تراجع ابنها عما سبق وأعلنه من أنهم سيتخلون تماما عن الحياة السياسية، وعاد وقال إنهم سيعودون إلى بنجلاديش عندما تهدأ الأمور لممارسة نشاطهم السياسى مع حزبهم رابطة عوامى.

• • •

عقب إعلان استقالة الشيخة حسينة فى 5 أغسطس 2024، اتخذ رئيس الجمهورية محمد شهاب قرارا بحل البرلمان والاستعداد لإجراء انتخابات جديدة فى أقرب وقت، والإفراج عن رئيسة الوزراء السابقة وزعيمة حزب بنجلاديش الوطنى المعارض خالدة ضياء، وإعادة فتح المكاتب الحكومية والمدارس والجامعات التى سبق إغلاقها أثناء الاحتجاجات وفرض حظر تجول شامل. كما تم بناء على اتفاق مع قادة الجيش، وقيادات الاحتجاجات الطلابية، والنقابات، وأحزاب المعارضة، استدعاء د. محمد يونس الذى كان موجودا فى باريس، وتكليفه بتشكيل حكومة تصريف أعمال انتقالية تستعيد الهدوء والاستقرار وتجرى الانتخابات. وأدى د. يونس اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية. وخاطب رئيس الوزراء المؤقت الطلبة قائلاً إنهم جعلوا يوم النصر الثانى ممكناً، وناشد المواطنين بالعودة إلى الهدوء، وأدان أعمال العنف التى أعقبت إعلان استقالة رئيسة الوزراء وقال «إن العنف عدونا»، وأنه لا يجب خلق المزيد من الأعداء، ويتعين الاستعداد لبناء بنجلاديش.

إن د. محمد يونس البالغ من العمر 84 عاما والذى يحظى بتأييد أغلبية كبيرة من سكان بنجلاديش البالغ عددهم نحو 170 مليون نسمة، بتوليه الحكومة الانتقالية ينتقل إلى مهمة أخرى أكثر اتساعا وتعقيدا من تجربته مع بنك الفقراء، حيث تشمل عدة تحديات فى مقدمتها إعادة هيكلة اقتصاد بنجلاديش الذى لا يزيد الاحتياطى النقدى لديه عن نحو 21 مليار دولار أمريكى، وإتاحة فرص عمل للشباب على أساس العدالة والمساواة، وإفساح المجال للتغيير وحرية الرأى خاصة للمعارضة. ولا شك أن لديه مؤهلات وخبرات وتجارب تساعده على اجتياز معظم هذه التحديات خاصة استعادة الأمن والاستقرار لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، ولكن حكومته مؤقتة وعمرها قصير وسلطاتها محدودة ومحددة، فهل ستنتهى مهمته بعد إجراء الانتخابات وتعود بنجلاديش سيرتها السابقة، أم أنها ستخرج عن تقاليد تولى زعامة أحد الحزبين الرئيسيين رئاسة الحكومة وتعهد برئاستها إلى د. يونس ليكمل مهمة التغيير؟

إن ذلك كله سيتضح مع تطورات الأحداث فى الأيام القادمة وخاصة عقب إجراء الانتخابات العامة.

 

رخا أحمد حسن عضو المجلس المصري للشئون الخارجية وعضو الجمعية المصرية للأمم المتحدة.
التعليقات