أسمع من أصدقاء أتراك أن هناك قلقا حقيقيا فى أكثر من دائرة من دوائر صنع السياسة فى أنقرة بسبب تدهور الأوضاع فى مصر. أسمع عن القلق ذاته فى دوائر سياسية أوروبية وأمريكية وفى كثير من العواصم العربية.
كنا دائما نعتقد أن مصر مؤثرة عندما تكون نشطة وفاعلة وغير مؤثرة عندما يفسد حكامها ويستسلم شعبها فتتوقف عن الفعل. وتوصلنا فى مرحلة من المراحل إلى أن بعض القوى الإقليمية، وخارج الإقليم، تريد أن تكون مصر فاعلة لأنها عندما تكون غير فاعلة تكثر تدخلات قوى أخرى فى شئون الإقليم بهدف الهيمنة أو تقاسم الثروات. وفى أحيان سعت قوى أجنبية لتبقى على مصر ضعيفة ولكن فاعلة ورأينا كيف أن دولا عظمى شجعت حكام مصر وأمدتهم بجرعات من المقويات الإعلامية حينا والمادية حينا آخر لتبقى مصر طافية وفاعلة ولكن بشروط وقيود. أرادوها فاعلة فى خدمة مصالح معينة ولآجال معينة وضمن أطر معينة. يخطئ مثلا من يتصور أن إسرائيل تريد مصر غير فاعلة على الإطلاق، أرادتها فاعلة إلى الحد الذى يخدم أهدافها لا أكثر، ولذلك لم يخف الإسرائيليون، نخبا مدنية أو عسكرية، جزعهم عندما سقط مبارك واعتبروا سقوط نظامه، لو حدث، كارثة وطنية. فى ذلك العهد كانت مصر مؤثرة بالقصور والاهمال فاستطاعت إسرائيل أن تنجو من تداعيات حكم محكمة العدل الدولية فى شأن الجدار العازل ومن تداعيات تقرير جولدشتين فى شأن جرائم إسرائيل فى غزة. كانت هذه المواقف المخزية دافعا مهما استعانت به عواصم عربية معينة لتتهرب من مسئولية المواجهة.
●●●
الأسوأ هو أن تكون مصر غير فاعلة على الإطلاق. فى هذه الحالة تتسابق قوى من كل نوع لتملأ الفراغ الذى خلفته الدولة المصرية حين تمكن منها الارتباك وحلت الفوضى وتعددت الخيارات فى كل القضايا وتعقدت وهى تنتظر من يتخذ فيها قرارات. عندئذ تموج المنطقة بتيارات شديدة التطرف وأفكار شديدة التخلف وطموحات لا يسندها تجربة أو قبول عام. ويشهد تاريخ النظام الإقليمى العربى خاصة فى مرحلة النشأة ومراحل أخرى ومنها المرحلة الراهنة على دول وقوى عربية وأجنبية حاولت توجيه دفة النظام ولم تكن لديها الخبرة أو التجربة فتسببت فى كوارث. لا يعنى هذا أننى أرفض أن تظهر قيادات جديدة فى النظام العربى طالما ظلت مصر غائبة عن الفعل ولكننى أحذر من أن تنتهز قوى ودول بعينها هذه الفرصة لتدخل النظام العربى فى تجارب عشوائية أو سياسات تحركها أهواء شخصية وعائلية.
أخطر ما يمكن أن يهدد آمال المصريين فى مستقبل آمن هو أن تصبح مصر أداة تخدم السياسات الخارجية لدول متنافرة الأهداف فيصيب الإقليم ضرر كبير، وتدفع مصر فى النهاية ثمنا باهظا نتيجة هذا الوضع. ولا شك أن مصر تمر الآن، كما مرت خلال بعض السنوات الأخيرة، بحالة لا فعل رهيبة انعكست على أوضاعنا الداخلية فتعددت الأيادى العابثة بأمنها ووحدتها. ولا شك أيضا فى أن السباق الذى بدأ هادئا بين الدول للاستيلاء على الإرادة المصرية، يتواصل الآن أمام أعيننا صاخبا وعنيفا.
سمعت فى تحليلات معلقين ومستشارين أتراك شيئا قريبا من هذا التحليل، يعتقد بعض هؤلاء أنهم حين دعموا بشدة طموحات لوزير الخارجية أوغلو ورئيس الوزراء إردوغان تتعلق بدور تركيا فى الإقليم العربى. كانوا يتصورون أنه بالإمكان التأثير فى الحالة المصرية بحيث تكون مصر رصيدا وشريكا لتركيا فى تحسين الوضع الإقليمى وتطويره نحو مستقبل أفضل، يخدم تركيا والعرب ومصر فى آن واحد.
يقول أحد هؤلاء المحللين إنه كان يقدر جيدا صعوبات التعامل مع بعض السياسات العربية. خاصة الخلافات بين الأنظمة الحاكمة فى الخليج، وبينها وبين الأنظمة العسكرية التى وصلت إلى الحكم عن طريق الانقلابات. ولم يندم صديقنا على تقديره هذا بعد أن واجهت السياسة التركية مشكلات عديدة بسبب انخراطها فى أجواء السياسات الإقليمية، ولكنه ما يزال يعتقد أن تركيا لن تحقق ما آلت على نفسها أن تحققه فى الشرق الأوسط إلا إذا نهضت مصر واستعادت إرادتها، ولو بعضا منها، ومارست دورا يناسب مصالح أمنها القومى وتطلعات شعبها. أعرف أن هذا النوع من المستشارين كان سعيدا للغاية بنشوب الثورة فى مصر، وإن لم تسعده بنفس الدرجة ثورة ليبيا وثورة سوريا. كان التقدير فى ذلك الحين أن ثورة فى مصر ستجعل مصر تبدو أقرب إلى أنقرة وأكثر تفهما لحاجة الشرق الأوسط إلى التغيير وأكثر التزاما برفض توجه بعض النخب الحاكمة العربية نحو إيلاء الأساليب الطائفية والعرقية فى صنع السياسات الداخلية والإقليمية اهتماما كبيرا.
●●●
يعرف صديقى التركى، وأصدقاء آخرون، أن تركيا التى قرر حكامها التوقف عن انتظار القطار الأوروبى لن تتمكن وحدها من إقناع بروكسل وواشنطن ولندن وباريس وبرلين بحق الشرق الأوسط فى استقلال إرادته وفرض الاستماع لرأيه. تصوروا وكنا نتصور، أن تركيا ستجد فى مصر صديقا أو حليفا يفهم معنى وأهمية أن تعلن أنقرة على لسان رئيس وزرائها اتهامها كل من باريس ولندن بانتهاج سياسة استعمار جديد فى ليبيا، ويفهم الأهمية التاريخية والاستراتيجية لتطورات موقف تركيا من إسرائيل وإعلانها ضرورة وضع حد لغطرسة إسرائيل وتدليل المجتمع الدولى لها. لا أحد غير المصريين قادر على أن يمارس تفاصيل الإجراءات التركية، أو على الأقل دعمها، فمصر الدولة التى عانى شعبها أكثر من أى شعب آخر بسبب غطرسة إسرائيل وهيمنتها على نظام مبارك وتسييرها سياسته الخارجية لمصلحتها على امتداد عشرين عاما أو أكثر.
لا أحد غير مصر، بين العرب، يستطيع أن يقدر أهمية المحاولات الجارية لإثارة صراع إقليمى جديد بين إيران وتركيا، ويفهم أيضا ضرورات توخى الحذر قبل أن تشتعل المنطقة مرة أخرى بحرب إقليمية أو دولية ترافقها هذه المرة حروب طائفية وعرقية وأهلية تلوح بوادرها فى أكثر من دولة عربية. لا توجد مصلحة مباشرة لأى من تركيا ومصر فى الدخول فى مواجهة غير مدروسة وغير محسوبة مع إيران، فى وقت ترفض فيه معظم الأطراف العربية والدولية مراعاة أبسط مبادئ الأمن الإقليمى الجماعى فى علاقاتها بالمنطقة. كانت فرصة أضاعتها الدول العربية حين تجاهلت وجود من يجمعها ويلم شملها ويعيد إليها الكرامة التى فقدتها بطول التعتيم على انتهاكات اسرائيل. جاء من يدعوها للمشاركة فى حملة دولية، دبلوماسية واستراتيجية، للضغط على العدو الجاهز والمحتل فعلا لأراض عربية شاسعة والطارد لشعب عربى من أرضه. كان يمكن وبدون تكلفة كبيرة، أن يقع تفاهم بين تركيا ومصر على قيادة هذه الحملة، وكان يمكن لو توفر فى بعض الدول العربية الفهم الجيد لأسس الأمن القومى والإقليمى، ولو وجدت هذه الدول من يشجعها على انتزاع ارادتها فى العمل الإقليمى والدولى من قيود أمريكا والغرب، كان يمكن عندئذ إحداث نقلة كبيرة فى العمل الإقليمى لصالح العرب والأتراك وكل الشعوب.
نعرف كما يعرف الأتراك أن أوروبا تتراجع قوة ونفوذا، وأن الغرب بأسره يتراجع وحدة واقتصادا ونعرف أنه إذ لم نحقق انجازات متواصلة على طريق البناء الداخلى الصحيح والديمقراطى وعلى صعيد الاندماج الإقليمى، فكلنا، والأتراك فى المقدمة مهددون بالعودة إلى أنظمة حكم استبدادية ونظم اجتماعية متخلفة ونظام اقتصادى مالى جشع نرى كل يوم بل كل ساعة مؤشرا جديدا لسقوطه، وقد بدأ بالفعل مدويا..
●●●
لن نكون، مهما حاولنا، جزءا من أوروبا أو ولايات فى أمريكا. ولكننا نستطيع، لو حاولنا، أن نكون جزءا فى مجموعة الدول الناهضة وهى الصين وروسيا والبرازيل والهند واتحاد جنوب أفريقيا. والفرصة سانحة.