مما لا شك فيه أن القمة العربية الصينية مثلت توجها استراتيجيا فارقا فى العلاقة بين الصين والدول العربية، وليس هذا التوجه إلا إحياء وتعزيز لعلاقة تاريخية عمرها أكثر من ألف عام، حين كانت التجارة والقوافل تنتقل على طريق الحرير العظيم بين الصين والمنطقة العربية، وحين كانت السفن العربية تبحر إلى جنوب شرق آسيا والشرق الأقصى، وحين كانت شرايين تلك التجارة تمتد إلى الموانئ المصرية التى كانت بوابات تجارة الخزف والحرير والتوابل والمنتجات الشرقية إلى أوروبا، قبل أن تتحول دفة سفينة التاريخ بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح.
الأمر إذا ليس بجديد، والعلاقة القائمة منذ قديم الأزل امتدت إلى العصر الحديث، حيث كانت مصر هى أول دولة عربية وأفريقية تقيم العلاقات الدبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية عام 1956، كما كانت الصين هى أول دولة غير عربية تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية وفتحت مكتبا للمنظمة فى بكين ومنحته الحصانة الدبلوماسية الممنوحة للسفارات الأجنبية، واستمرت علاقات الصين الطيبة المناصرة للقضايا والحقوق العربية على الدوام، من جهتهم دعم العرب الصين لاستعادة مقعدها الشرعى فى الأمم المتحدة ودعمها فى قضايا حقوق الإنسان وقضايا السيادة ووحدة الأراضى الصينية.
وفى عام 2016 أعلنت الحكومة الصينية «وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية«، والتى تناولت الروابط التاريخية التى تجمع الصين بالدول العربية، والسياسات ومجالات وآفاق التعاون بينهما، ويمكن تبين أن الخط العام للعلاقات العربية الصينية يتمثل فى توافق استراتيجى حول العديد من القضايا والمسائل السياسية والاقتصادية، وإيمان بأهمية التعاون المشترك حاضرا ومستقبلا.
• • •
لكن اللافت للنظر أن مخرجات القمة العربية الصينية قد تضمنت التأكيد على التعاون المشترك لتحقيق التنمية المستدامة وتنفيذ مبادرة الحزام والطريق، وهى مشروع اقتصادى عملاق لإحياء طريق الحرير التاريخى تحت عنوان «حزام طريق الحرير الاقتصادى وطريق الحرير البحرى للقرن الحادى والعشرين»، ويقوم المشروع على إنشاء سلسلة من مشاريع البنية التحتية كأساس لممرات اقتصادية تمتد من الصين إلى جميع أنحاء أوراسيا والشرق الأوسط.
الحزام يشير إلى الطريق البرى والسكك الحديدية، ليمتد من الصين مخترقا آسيا الوسطى إلى أوروبا، عبر ستة محاور طرق برية وستة مسارات سكك حديدية، بينما الطريق يشير إلى الطريق البحرى من الصين إلى جنوب شرق آسيا إلى المحيط الهندى ومنه إلى البحر الأحمر ثم قناة السويس إلى أوروبا، المشروع يضم 65 دولة تمثل 60% من تعداد سكان العالم 40% من الناتج المحلى الإجمالى العالمى.
الصّين تعلم أن التجارة الدولية هى شريان الحياة لصناعاتها ومنتجاتها، لذلك ترغب فى إطار هذه المبادرة بالمحافظة على أسواقها التّصديرية وفتح أسواق جديدة، وبالفعل تحقق لها ذلك خلال الأعوام الماضية بارتفاع صادراتها إلى الدّول التى تقع ضمن مسارى الحزام والطريق بنسبة 23٪ وتعززت وتوسعت علاقاتها الاقتصادية بدرجة غير مسبوقة.
من جهة أخرى فإن أحد الأهداف المالية والنقدية لمبادرة الحزام والطريق هو تعزيز التّبادل التّجارى بالعملة الصّينيّة اليوان، وتقليل الاعتماد على اليورو والدولار، وهو هدف يلتقى استراتيجيا مع أهداف العديد من الدول التى أُنهك اقتصادها بفعل تقلبات أسعار الصرف العالمية للعملات وفى مقدمتها الدولار واليورو، وذلك الهدف يتقاطع مع جهود الصّين لفتح بورصة لتداول عقود النّفط والغاز باليوان الصّينى بديلا عن الدولار، وهو ما تحاوله الصين مع كبار الدول المصدرة ولا سيما الدول الخليجية.
فى إطار مبادرة الحزام والطريق تعهدت الصّين بتخصيص ثمانية تريليونات دولار لتمويل مراحل المشروع خلال العقدين القادمين، بقيام كل دولة مشاركة بتمويل مشاريع البنية التّحتيّة ذات العلاقة بالمشروع من خلال قروض للتمويل التى يتيحها عدد من البنوك الصينية التى أنشأت خصيصا لهذا الغرض، مثل البنك الآسيوى لاستثمارات البنية التحتية، وصندوق طريق الحرير، وهى جهات لا تربط قروضها التنموية بشروط سياسية أو متطلبات اقتصادية مجحفة مثل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى.
على الجانب الآخر حذرت كبيرة الاقتصاديين فى البنك الدولى من أن 60٪ من قروض البنوك الصينية الموجهة إلى الدول النامية تغطيها ضمانات مجحفة مثل حقوق الملكية فى المشروعات أو الموانئ أو الأصول الكبرى، وهو ما يطلق عليه «دبلوماسية فخ الديون»، والتى تعنى أن الصين تتعمد تقديم الائتمان المفرط إلى دولة معينة لانتزاع مكتسبات سياسية أو اقتصادية منها حال عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، وبالنسبة لمصر فإن المفاوضين والخبراء المصريين على درجة عالية من الحيطة والحذر فى هذا الشأن دون ريب.
الطريق البحرى من ذلك المشروع العملاق يرتبط مباشرة بمصر، وبحكم الجغرافيا والتاريخ فإن مصر هى دولة بحرية عريقة ذات موقع فريد، وبحكم الاستراتيجية والسياسة والاقتصاد فإن الواقع والمستقبل يحتم علينا ذلك ويفرضه، ويعززه وجود قناة السويس أهم ممر ملاحى بحرى استراتيجى فى العالم، وهو وضع فريد لا تتمتع به دولة أخرى فى إطار ذلك المشروع سوى مصر.
من جانب الصين فقد شاركت بالفعل فى التنمية على نطاق واسع فى الجزء الجغرافى على الطريق الممتد من المحيط الهندى إلى قناة السويس وهو شرق أفريقيا ببناء وتشغيل السكك الحديدية ورصف الطرق وإنشاء المطارات والمناطق الصناعية وبناء السدود والمبانى العملاقة.
تركزت الجهود الصينية فى ميناء بيرايوس، حيث ستستثمر الشركات الصينية 550 مليون يورو بحلول عام 2026، وفى ميناء هام آخر هو تيريستا الذى يبعد عن قناة السويس أربعة أيام بحرا، وضعت الصين خططا تنموية كبرى لتطوير الميناء وإقامة مركز لوجيستى عملاق، حيث يخطط لنقل البضائع إلى وسط وشمال وغرب أوروبا بشبكات السكك الحديدية الجارى تطويرها على نطاق واسع.
• • •
الموقف الحالى يمثل لمصر فرصة تاريخية يصعب تكرارها، وتحدى كبير يجب قبوله والعمل بجهد للنجاح فيه، ولسنا بمنأى عن المنافسة الضارية، فدول عديدة تريد تعظيم مكانتها واستفادتها من هذا المشروع العملاق، ودول أخرى تقدم نفسها للصين كشريك استراتيجى، وأخطر ما يحيط بالموانئ البحرية المصرية، يتعلق بالموانئ المنافسة فى حيفا وأشدود فى إسرائيل، وبيرايوس فى اليونان، وليماسول ولارنكا فى قبرص، وجوياتاورو فى إيطاليا، وهى موانئ بحرية تنتهج من جانبها أيضا سياسات تنافسية قوية تدعمها خطط استثمارية طموحة يتعين أخذها فى الاعتبار، فلسنا وحدنا فى هذا العالم القائم على الصراع والمنافسة والتميز والتفوق.
مشروع الحزام والطريق يمثل فرصة واعدة للموانئ البحرية المصرية ونجاحها على المستوى الوطنى والإقليمى والدولى، هى مسألة هامة وذات أبعاد استراتيجية وسياسية واقتصادية كبرى لمصر، فهو مجال تستثمر فيه مليارات الدولارات وتتعلق به درجة عالية من المخاطر والمنافسة، على اعتبار أن القدرة التنافسية للميناء تجاه غيرها من الموانئ تنعكس فى نجاحها أو فشلها فى تحقيق أهدافها، وبالتالى قدرتها على البقاء والاستمرار فى مواجهة الموانئ الأجنبية المنافسة، ولا سيما أن مصر تمتلك أكثر من 15 ميناء بحرى تجارى، وعشرات الموانئ التخصصية والتعدينية والبترولية والسياحية.
أيضا ومع اعتبار الشراكة المصرية الصينية القائمة فى العديد من المشروعات فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والمنطقة الاقتصادية الروسية، واتفاقات المناطق الحرة واللوجيستية مع العديد من الدول، ومع اعتبار تحول مصر لتصبح مركزا إقليميا للطاقة فى شرق المتوسط، وبقدر ما بذل بالفعل من جهود كبرى لتنمية الموانئ المصرية وإنشاء المراكز اللوجيستية، متكاملة مع أكبر عملية لمد الطرق والسكك الحديدية فى تاريخ مصر، فإن كل ذلك سيخدم مصر فى دورها العالمى المنشود وفق مشروع الحزام والطريق.
والمسألة تكمن فى حجم ذلك التحدى والقدرة على الاستجابة وتحقيق النجاح الذى تستحقه مصر.
خبير الاقتصاد الدولى واللوجيستيات