الآن وأسعار البترول تتهاوى، وتتسابق دول البترول العربية الخليجية إما للاستدانة أو للسحب من صناديق الأجيال القادمة أو تقليص الدٌعم للمواد الغذائية وشتى الخدمات، أو حتى التفكير فيما كان سابقا محرما وهو فرض الضرائب على المداخيل، الآن وتلك الدول تتراجع بصورة مذهلة عن كونها دولا ريعية ودول الرفاهية الاجتماعية، الأمر الذى سيستوجب تغيرات كبرى فى الحياة السياسية فى تلك الدول، الآن ومشاعر الذهول والحيرة والأسف تهيمن على المشهد دعنا نذكر، إن نفعت الذكرى.
ففى عام 1981، أى قبل أكثر من ثلث قرن، طلب وزراء التخطيط فى الدول الخليجية العربية الست من الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية أن تدعو مجموعة من مفكرى وكتاب ومثقفى واختصاصيى دول المجلس لوضع «تصور لاستراتيجية بعيدة المدى تعمل فى إطاره جميع خطط وبرامج التنمية فى دول المجلس».
كانت خطوة رائعة دلت على أن الأنظمة والمسئولين كانوا يعطون أهمية لما تفكر فيه وما تريده شعوبها. ولذا تحمس كل الذين دعوا وعقدوا عدة اجتماعات كانت غنية فى مناقشاتها ووطنية مسئولة فى طرحها للأمور وتقديم توصيات بشأنها. وقد نوقشت سبعة عناوين كبرى تتعلق بالبترول والعمالة والاقتصاد والإدارة العامة وامتلاك المعرفة والتقنية وإصلاح التربية والتعليم.
***
إن عمود اليوم معنى باسترجاع ما قدم بشأن تخفيض الاعتماد على النفط وإخضاع إنتاجه لاعتبارات التنمية. لقد كانت التوصية المفصلية تتعلق باعتبار البترول ملكية عامة وبالتالى الاحتفاظ بالجزء الأكبر من عائداته فى بناء تنمية شاملة، بما فيها بناء اقتصاد بديل إنتاجى يولد فوائض كافية لاستمرار تنمية إنسانية مستمرة فى المستقبل، وبما فيها أيضا وضع جزء من العائدات فى شكل أصول استثمارية آمنة مدرة لعائد حقيقى يمول المزيد من الاستثمار الاقتصادى المباشر ويكون مصدر أمان للأجيال المستقبلية القادمة. ولذلك قدمت توصية جريئة وواضحة وهى أن تسعى دول المجلس إلى تخفيض نسبة مساهمة البترول فى الناتج المحلى الإجمالى من 5.% فى الثمانينيات إلى نسبة 25% بحلول عام 2000، وتخفيض مساهمة البترول فى تمويل النفقات العامة (الميزانية) والنفقات الإنشائية من نحو 82% إلى لا شىء بحلول عام 2000.
والسؤال: هل أخذت حكومات دول المجلس آنذاك توصيات التقرير محمل الجد أو حتى تبنت بعضها؟ الجواب مع الأسف هو النفى، بل إن الحكومات تجاهلت ذلك التقرير الاستراتيجى الهام، وبذلك دخل طي النسيان.
اليوم نطرح سؤالا آخر: ترى لو تبنت دول المجلس تلك التوصيات المتعلقة بالبترول وبتغييرات جذرية فى الاقتصاد، فهل كانت ستواجه الوضع الحالى وهى مغلولة الأيادى وبدون وضع اقتصادى ومالى متين قادر على مجابهة آثار أزمة هبوط أسعار البترول المفجعة الحالية والمرشحة للامتداد فى المستقبل؟
هل كان بالإمكان تلافى ما سيكتبه التاريخ من قصة حزينة مبكية عن التعامل غير المسئول وغير الحكيم مع حقبة البترول بالرغم من آلاف التحذيرات، فى شكل كتابات وندوات ونداءات سياسية، والتى حذرت من عدم استعمال فوائض عائدات البترول فى بناء اقتصاد إنتاجى وترسيخ تنمية إنسانية شاملة؟ وكانت تلك الأصوات تشير دائما إلى أن البترول هو ثروة طبيعية ناضبة وأن فوائضه هى فرصة تاريخية يجب ألا تضيع.
***
قصة ذلك التقرير، والذى لاتزال الكثير من توصياته صالحة ليومنا الحالى الذى نعيش، هى قصة العلاقة الملتبسة بين أنظمة الحكم وبين المفكرين والمثقفين. إنها فجوة بين أصحاب القرار وبين أصحاب العلم والمعرفة، والتى كتب عنها الكثير من الكتب. إنها هوس من الشٌكوك والريبة بشأن نيات أصحاب الفكر والثقافة، وبالتالى بشأن كل ما يقدمونه من مقترحات، وبالطبع بشأن كل ما يمارسونه من نقد.
ولذلك فليس بمستغرب ما سمعته من أن عددا من الوزراء الانتهازيين، ما أن قرأوا التوصيات التى قدمت آنذاك حتى سارعوا لتحذير قادة الحكم فى بعض البلدان الست من الأخذ بالتوصيات، بحجة أنها ستنقص امتيازاتهم وستضعف سيطرتهم على مفاصل الدولة والمجتمع. إنها قصة الزبونية الأنانية التى لديها القدرة على أن تلعب على القيثارة وتغنى بينما المدن تحترق والمستقبل يتدمر.
دعنا من الزٌمرة التى لا ترى فى هبوط أسعار البترول إلا الأسباب الخارجية، ولا ترى فيه إلا ظاهرة مؤقتة وطبيعية. إننا ننبه هنا إلى شىء آخر، إننا نتكلم عن بناء مجتمعات قادرة على مواجهة تقلبات الخارج بهدوء وبكفاءة عالية وبأقل التأثير على غذاء وخدمات المواطنين.
يسأل الإنسان نفسه: هل ستتعلم أنظمتنا من دروس الماضى والتى أوردنا مثلا واحدا منها، وتبنى جسورا بينها وبين المفكرين والمثقفين، أم أنه ما إن تهدأ العاصفة البترولية الحالية تعود حليمة إلى عادتها القديمة؟
إنه سؤال جوهرى صادق جاد فى مجتمعات الهزل والتثاؤب.
مفكر عربى من البحرين