سيطرت البرجماتية على علاقات واشنطن بالقاهرة قبل ثورة يناير المجيدة.
ووقع اختيار الرئيس أوباما على القاهرة كى يتحدث منها فى 4 يونيو 2009، وتحديدا من منبر جامعة القاهرة، للعالم الإسلامى كإشارة وتقدير لخصوصية وأهمية مصر. الرئيس الأسبق حسنى مبارك قام بزيارته الأخيرة لواشنطن فى بداية سبتمبر 2010 تلبية لدعوة أوباما للمشاركة فى إطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وعلى الرغم من ثبات العلاقات بين القاهرة وواشنطن، فقد صدر بيان تقليدى من البيت الأبيض قبل مغادرة مبارك لواشنطن، أزعجه وأزعج الوفد المرافق له، يؤكد على «أهمية وجود مجتمع مدنى نشط، ومنافسة سياسية مفتوحة، وانتخابات شفافة وعادلة فى مصر».
ثم بدأ عام 2011 مبكرا فى واشنطن، وتحديدا سبع ساعات كاملة، وهى فرق التوقيت بين الساحل الشرقى لأمريكا ومصر، عندما وقعت انفجارات استهدفت كنيسة القديسين«مار مرقص»؛ الرسول والبابا بطرس خاتم الشهداء، بمنطقة سيدى بشر بالإسكندرية والتى قتل فيها 23 شخصا أثناء مغادرتهم الكنيسة بعد إتمام الصلاة. أدان البيت الأبيض حادث التفجير فور حدوثه، وذكر بيان البيت الأبيض حينذاك أن مرتكبى هذا الحادث كانوا يستهدفون متعبدين مسيحيين، وهم لا يكنون أى احترام لحياة البشر وكرامتهم، ويجب تقديمهم للعدالة. وأجرى الرئيس أوباما مكالمة هاتفية مع نظيره المصرى مبارك صباح يوم الثلاثاء 4 يناير وقدم أوباما خلالها تعازيه فى ضحايا الحادث، وتحدث أوباما عن تطورات الأوضاع فى تونس مع مبارك، وأكدا على ضرورة الدعوة للهدوء وإنهاء العنف، وأن تجرى الحكومة الانتقالية انتخابات حرة وعادلة بالمعايير الدولية وتلتزم بمبادئ حقوق الإنسان العالمية، بما يلبى تطلعات الشعب التونسى.
وعلى إثر حادث الكنيسة، سارع الكونجرس لعقد جلسة استماع خاصة حول قضية الانتهاكات والمخاطر التى يتعرض لها أقباط مصر. وتناولت مناقشات جلسة الاستماع مجموعة خطيرة وجديدة من الطلبات التى يريد أعضاء بلجنة حقوق الإنسان، وهى اللجنة المعروفة باسم لجنة «توم لانتوس لحقوق الإنسان»، أن تقوم الإدارة الأمريكية بتلبيتها. ومن أهم هذه المطالب أن يتم تسهيل تسفير الأقباط للولايات المتحدة، وأن تعين إدارة أوباما مبعوثا لشئون مسيحيى الشرق الأوسط، وينصب تركيزه على أقباط مصر، وأن يتم تعيين دبلوماسى داخل السفارة الأمريكية بالقاهرة للتعامل مع الأقباط.
***
بعد بدء الثورة التونسية وخلال مشاركتها فى أعمال مؤتمر «منتدى المستقبل: حوار الشراكة» يوم 13 يناير فى العاصمة القطرية الدوحة، والذى انعقد بفندق ريتز كارلتون حذرت كلينتون بصورة واضحة الحكام العرب من خطورة عدم الاستجابة للواقع وللحقائق الجديدة خاصة ما يتعلق منها بمطالب الشباب. ووجهت كلينتون كلامها مباشرة للحكام العرب قائلة: «إلى قادة هذه الدول أقول التالى: بمقدوركم أن تبنوا مستقبلا يمكن لشبابكم أن يؤمنوا به وأن يبقوا من أجله وأن يدافعوا عنه. والبعض منكم بدأ يبدى هذا التوجه. لكن بالنسبة لآخرين سيتطلب الأمر رؤى جديدة واستراتيجيات جديدة والتزامات جديدة. وقد آن الأوان للنظر إلى المجتمع الأهلى لا كتهديد بل كشريك. وقد حان الوقت للنخب المتمكنة فى كل مجتمع أن تستثمر فى مستقبل بلدانها بالذات. وأولئك الذين يتشبثون بالوضع القائم قد يستطيعون صد التأثير الكامل لمشكلات بلدانهم ردحا من الزمن، ولكن ليس إلى الأبد. وإذا لم يقدم الزعماء رؤية إيجابية ويمنحوا الشباب سبلا ذات معنى للمساهمة، فإن أطرافا أخرى ستسد الفراغ. فى كثير جدا من البلدان وبطرق كثيرة جدا فإن ركائز المنطقة بدأت تتداعى وتغوص فى الرمال. والشرق الأوسط الجديد والديناميكى الذى شاهدته بحاجة لأرضية أكثر رسوخا».
وكانت تلك الكلمات سببا كافيا لغضب كبير من قادة الدول العربية. وغضب بشدة وزراء خارجية السعودية والإمارات ومصر، وتذكر كلينتون أن «وزير الخارجية المصرى أحمد أبو الغيط غضب منها بشدة وقال ألا تعرف الوزيرة أن العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر بنيت بالإساس على الاستقرار، والاستقرار بنى على استقرار حكم مبارك».
***
وقبل بدايات عام 2011، خرجت الكثير من كتابات الخبراء الأمريكيين المعلقة على الانتخابات البرلمانية المصرية 2010 بالتركيز على نقطتين أساسيتين جديدتين عند تحليلها لهذه الانتخابات. النقطة الأولى خطيرة وتتعلق بما يصفه البعض هنا بظاهرة جديدة على مصر تتعلق «بضعف الدولة المصرية»، والنقطة الثانية أكثر خطورة وتتعلق بالتشكيك فى «شرعية الرئيس القادم لمصر». وبسبب الانتخابات، خسرت الحكومة المصرية تعاطف الكثير من المهتمين بالشأن المصرى من بين أهم خبراء مراكز الشرق الأوسط المتخصصة فى واشنطن، خاصة مع عدم اكتراث القاهرة بما نقلته وسائل الاتصال المختلفة من تفاصيل الانتخابات الأخيرة، خاصة صور الانتهاكات الفاضحة وعمليات شراء الأصوات والتزوير الواسعة. ورأى خبراء واشنطن أن طريقة إدارة الانتخابات المصرية عام 2010، وما شابها من تدخل أمنى واسع وكبير النطاق، إضافة إلى سقوط كثير من الضحايا بين قتيل وجريح، إذ يعكس ضعفا جديدا لم تعرفه الدولة المصرية منذ عقود طويلة، مما يهز للمرة الأولى صورة الدولة وقدسيتها عند ملايين المصريين. وهذه النقطة جديرة بلفت نظر صانعى السياسة فى واشنطن إلى أن دولة مصرية ضعيفة إضافة إلى رئاسة جديدة تفتقد أساسا صلبا لمشروعيتها، يمثلان آخر ما تأمل به واشنطن فى حليفتها التقليدية مصر.
وهكذا أصبح ملف حكم مصر فى عصر ما بعد الرئيس مبارك ملفا مفتوحا فى واشنطن، وغلبت وجهة نظر تيار آمل أن تستمر العلاقات الخاصة بين القاهرة وواشنطن على حالها فى ظل قيادة مبارك أو من سيخلفه حتى لو كان ابنه جمال. إلا أن الشعب المصرى كان له قول آخر.