منذ تبلورت فكرة إقامة مجرى مائى يصل بين البحرين الأحمر والأبيض، فى ذهن المهندس الفرنسى فرديناند ديلسبس، وعرضها على صديقه الخديوى سعيد، مرورا بافتتاحها الباذخ على يد الخديوى إسماعيل عام 1869، الذى شاركت فيه الإمبراطورة «أوجينى» زوجة نابليون الثالث، انتهى الأمر بأن غدت «القناة» نبتة غربية خالصة.. كفكرة، وشركة مساهمة، ورمز سياسى، وبغلاف قانونى دولى من خلال اتفاقية القسطنطينية عام 1888 التى أقرت وضع القناة باعتبارها ممرا مائيا دوليا، تتكفل مصر بضمان حرية الملاحة فيها وفق ما يسمى فى كتابات القانون الدولى «حق المرور البرىء».
ولقد ترتب على إقامة «الحاجز الطبيعى – المائى» بالقناة أمران مهمان:
أولا: تجزئة المعمور المصرى، وفصل شبه جزيرة سيناء عن البر القارى المصرى الرئيسى، لتشبه سيناء نتوءا جغرافيا خارج مساحة المعمور المصرى، أو «الأرض الأم». وترتب على ذلك الإبقاء على سيناء كمنطقة فراغ ديموغرافى، فى ظل تهميش اقتصادى وتنموى شبه تام، على الرغم من الثروات المعدنية الهائلة، وحرمان وطنها الأم من منطقة فريدة فى معمورها المركب، تمتاز إضافة لأمور أخرى عديدة، بجمال الطبيعة الخلاب، لشعب كبير محروم من جمال الطبيعة تقريبا على امتداد الوادى الجاف والدلتا كثيفة الساكنة.
بذلك حرم الوطن المصرى (الصغير) من ميزة التواصل الجغرافى مع سائر وطنه العربى الكبير على امتداد المشرق بمعناه الواسع، كما حرم من إمكان الامتداد السكانى والعمران البشرى الزاحف بطبيعة الأمور من الوادى والدلتا إلى شبه الجزيرة ــ سيناء.
وحرمت مصر أخيرا من إمكانية الاستغلال السهل للموارد السينائية، المعدنية والطاقوية و«الجمالية».
ثانيا: أما الأمر الثانى فهو استهداف جعل «القناة» شوكة فى ظهر «الوطن الأم» فى معاركه العسكرية دائما. وكانت القناة بالفعل شيئا قريبا من ذلك بالفعل، إذْ أدت دورا معوقا لتلاحم قوات مصر المسلحة فى معاركها الوطنية المعاصرة. كانت كذلك فى معارك الجيش المصرى الناشئ بقيادة أحمد عرابى ضد الجيش البريطانى القادم لاحتلال مصر عام 1881 بدءا من إنزال قوات الأسطول البريطانى على الساحل الشمالى عند الإسكندرية. وقد فكر بعض رجال الثورة العرابية فى «ردم القناة» لإعاقة تقدم القوات البريطانية نحو الدلتا، مع ما يظهر من خديعة دبرها ديلسبس للقائد عرابى بنكثه الوعد بمنع استخدام القوات البريطانية للقناة للدخول إلى الصحراء الشرقية أو «صحراء الشرقية»، وهو ما أسهم فى هزيمة عرابى فى موقعة «التل الكبير».
وفى حرب فلسطين عام 1948 كانت القناة حاجزا أريد به المساهمة فى إعاقة تلاحم القوى النظامية والشعبية المصرية عبر مدن القناة وسيناء وفلسطين.
وكان الشغل الشاغل للضابط الشاب جمال عبدالناصر حينما ذهب إلى مسرح العمليات فى فلسطين، وقد تم أسره فى «الفالوجا»، هو كيفية التغلب على عائق الفصل بين مصر وفلسطين، باعتبار الحدود الشرقية لمصر هى بمثابة حائط الصد الاستراتيجى للأمن الوطنى المصرى.
ونذكر أن بريطانيا ظلت دائما تفضل الإمساك بمفاصل قناة السويس، لتحقيق «الأمن الاستعمارى» لها فى «الشرق الأوسط» حتى إن معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا تضمنت احتفاظ بريطانيا بقواعدها العسكرية فى منطقة القناة. واحتاجت قيادة ثورة 23 يوليو 1952 إلى أن تبذل جهدا فائقا لتحقيق انسحاب بريطانيا من منطقة القناة، ضمن «اتفاقية الجلاء» لعام 1954.
***
أما فى (حرب بورسعيد) عام 1956، فقد أطلق عليها الغرب «حرب السويس» إيماء إلى الأهمية المركزية لقناة السويس فى سيناريو الحرب كلها، بعد قيام جمال عبدالناصر بتأميم القناة فى خطابه يوم 26 يوليو 1956. وكان الإنزال المظلى لقوات (العدوان الثلاثى – البريطانى الفرنسى الإسرائيلى) على مدينة بورسعيد حلقة أساسية من حلقات العدوان المسلح على مصر.
وفى حرب يونيو 1967، كان مسرح العمليات فى سيناء الصحراوية الشاسعة، نقطة ضعف (مميتة) فى الاستراتيجية العسكرية المصرية حين نشرت القيادة العسكرية حينئذ قواتها فى سيناء ثم قامت بسحبها بعد الضربة الجوية (القاتلة) للمطارات المصرية صبيحة الخامس من يونيو.. فإذا بأفراد القوات يجرون انسحابا (كيفيا) ــ أو اعتباطيا ــ بدون غطاء جوى، حتى اكتملت حلقات الكارثة العسكرية التى أطلق عليها عبدالناصر تعبير «النكسة» فجرى التعبير من بعدها علامة على العملية كلها.
كان احتلال سيناء حينئذ من قِبل القوات الإسرائيلية هو «المكافأة الكبرى» لإسرائيل وجائزتها من عملية تدمير الجزء الرئيسى من القوات الجوية المصرية خلال ساعات معدودة، فأقامت على شاطئ القناة التحصينات الكفيلة بإبقاء القوات الإسرائيلية بعد «المضائق»، اعتمادا على عدم مقدرة مصر على عبور «المانع المائى» باتجاه الشاطئ الآخر.
وكان نجاح القوات المصرية فى التغلب على عقبة المانع المائى هو الخطوة الاستراتيجية الأم ضمن الإعداد المبكر لمعارك حرب السادس من أكتوبر 1973، حتى أطلق على العملية العسكرية كلها رمزيا «عملية العبور» إشارة إلى الحلقة الحاكمة فيها.
وبعد مفاوضات «السادات» مع الإسرائيليين بوساطة الرئيس الأمريكى «كارتر» فى كامب ديفيد عام 1978، أصر الإسرائيليون على أن يثبتوا فى «معاهدة السلام» 1979، وفى ملحقها العسكرى، ما يشبه «نزع سلاح سيناء» كلها على ثلاث شرائح: محدودة السلاح، ومخفضة التسليح، ومنزوعة السلاح إلا من سلاح وعتاد «حرس الحدود» على خط الحدود. وما زلنا نعانى الأمرين فى حرب الإرهاب الراهنة طوال السنوات الأخيرة، من جراء الفراغ الجغرافى ــ الديموغرافى لشبه جزيرة سيناء، وعزلتها المفروضة على مر القرنين الأخيرين بعد إقامة مشروع القناة، ثم من جراء القيود المفروضة ضِمْن الاتفاق التعاقدى مع إسرائيل. وقد احتاجت مصر أخيرا إلى جهد معين لنشر قوات إضافية فى سيناء وبأكثر مما تسمح به نصوص «المعاهدة» وملحقها العسكرى، كإجراء انتقالى.
***
هكذا إذن يبدو ما يشبه جناية «مشروع قناة السويس» على مصر، من جراء عزل وتهميش سيناء، بما يشبه «قص» جناح مصر الشرقى، عن معمورها الرئيسى، وحرمان مصر من الاستفادة المتكاملة من «سيناء ممرا» مفتوحا إلى الشرق، ومقرا لمشروعها التنموى العتيد.
وهذه كلمات للتاريخ ليس غير، وما مضى قد مضى بقضه وقضيضه، ونرى أن القناة أصبحت أمرا واقعا مهما كشريان رئيسى للاقتصاد العالمى والتجارة الدولية. وإنه لمن الضرورى الحفاظ عليها والعمل الدائم على تنمية قدراتها بشكل رشيد، من أجل أداء دورها فى المستقبل، ولو من خلال ما سمى أخيرا بمشروع (قناة السويس الجديدة). وإنما نبغى أخذ العبرة.
فكيف نتغلب على الآثار الوخيمة السابقة لمشروع قناة السويس على أمننا الوطنى؟ وكيف بالتالى نعيد إدماج سيناء فى الوطن المصرى اقتصاديا واستراتيجيا؟
كيف نحول القناة من نقطة ضعف كخنجر فى الظهر المصرى، كما أرادوا، إلى وسام على صدر مصر كما نريد؟ وكيف نجعل من شبه جزيرة سيناء – انطلاقا من القناة – ظهيرا استراتيجيا وعسكريا فى معارك الأمن القومى العربى مشرقا ومغربا.. من أجل إلغاء أثر «الحاجز المائى ــ الطبيعى» على التواصل الحر بين مصر وشقيقاتها العربيات؟