فى عالم متقلب، سياسيا واقتصاديا واجتماعية وسياسيا، على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية، يصبح من أوجب الواجبات أمام صناع السياسات الاقتصادية ومتخذى القرارات، وخاصة فى جمهورية مصر العربية، الحفاظ على مستوى مناسب من الاستقرار الاقتصادى، ومن ثم تجنب الهزّات التى تعوق المسار المتصل للنمو والتنمية، وتهيئة المجال لازدهار الاقتصاد الكلى. ومن أجل ذلك يتعين الحفاظ على مستوى مناسب للتعامل مع القضايا الأساسية ذات الصلة.
يمكن لنا أن نتصور عشر قضايا أساسية تتعلق بمجالات الاهتمام، تنطوى على محاور عدة: بدءًا من تحديد المشكلة، وانتهاء بمفاتيح الحلول. وقد تخيّرنا خمس قضايا من العشرة التى سنأتى على ذكرها، لنفصّل نسبيا فيها، ولننتهى منها بتقديم بضع توصيات تمثل بعض توجهات السياسات اللازمة لمعالجة العُقَد المرتبطة بها.
هذه القضايا العشرة هى:
1ــ تعاقب الدورات الاقتصادية.
2ــ اختلال التوازن بين العرض الكلى والطلب الكلى.
3ــ العمل بصفة خاصة على تحقيق القدر الضرورى والكافى من التوازن بين الأجور والأسعار.
4ــ قضية التوازن بين القطاعين؛ الحكومى، وغير الحكومى.
5ــ التوازن بين السكان والقوى العاملة.
6ــ التوازن بين «الصندوق الأسود» الممثل فى مستلزمات الإنتاج والسلع الوسيطة، من جهة أولى، وبين الناتج النهائى من جهة أخرى.
7ــ توازن ميزان المدفوعات.
8ــ توازن النقود وسوق الصرف والعملة.
9ــ التوازن بين سوق النقود وسوق السلع.
10ــ التوازن بين أشكال رأس المال المختلفة؛ رأس المال العينى والآلى، ورأس المال الفكرى والمعنوى (الملكية الفكرية)، ورأس المال البشرى.
فيما يلى نركز على خمس قضايا تخيرناها من بين العشرة السابقة، لاعتبارات متعددة، من حيث تشخيص المشكلات ومفاتيح الحلول.
تشخيص المشكلات ومفاتيح الحلول.
أولا: إن المشكلة الأساسية لتعاقب الدورات الاقتصادية هى تذبذب مستويات الناتج الكلى، والمتغيرات الاقتصادية الأساسية المرتبطة بذلك، بما فيه مشكلات تقلب مستوى التشغيل والدخول والإنفاق بأفرعه المختلفة، والعلاقة مع «الاقتصاد الخارجى». وبذلك يصعب رسم السياسات الملائمة، بما يترتب على ذلك من فوضى فى دائرة اتخاذ القرارات وصنع السياسات.
إن مواجهة التغير الدورى على النحو السابق هى المقدمة الأولى لإمكان صنع السياسات الاقتصادية الكلية بالشكل الصحيح، ومن ثم وضع الحلول الملائمة ومداخل السياسات الناجعة. ويكمن الحل أو مفتاح الحل فى ضبط حركة المتغيرات الاقتصادية الكلية، الداخلية والخارجية، بحيث لا يتم تجاوز الضوابط بما يخل بالتوازن الاقتصادى الكلى.
ثانيا: أما قضية الاختلال بين العرض الكلى والطلب الكلى، فإنه يترتب عليها تذبذب مستويات الناتج وتقلب الدخول والنفقات، ومن ثم يتعين ضبط مسار الحركة فى الجانبين، على المدييْن المتوسط والبعيد.
ثالثا: أما توازن ميزان المدفوعات، فإنه مشكلة تتطلب الحل من زاويتيْن:
أــ تنمية الصادرات ذات الميزة النسبية والتنافسية للدولة.
بــ الإحلال محل الواردات من السلع والخدمات التى يمكن تعويضها من الناتج المحلى، بتكلفة معقولة اقتصاديا واجتماعيا.
رابعا: توازن النقود وسوق الصرف، وكذا ضبط العلاقة بين سوق النقود وسوق السلع. يتطلب ذلك، من الجهة الأولى، بناء سياسة متكاملة لسعر الصرف، من خلال الحفاظ على قيمة توازنيه دقيقة وفعالة للعملة المحلية. ويرتبط ذلك بالسياسات الأخرى فى مجالات الإنتاج والعمالة والتجارة الخارجية، بصفة أساسية. وينبغى هنا العمل على تحقيق وجود ملموس للسعر الواقعى والعادل للعملة المحلية، وتجنب التخفيض غير الضرورى للعملة. ومن الملاحظ هنا أن مجرد خفض قيمة العملة المحلية لا يكفل تنمية الصادرات، نظرا لوجود عوامل متعددة تكمن وراء نمو أو انكماش الصادرات، بما فى ذلك مستوى كل من السعر والدخل، وما يسمّى بالمرونة السعرية والدخْلية.
ومن الجهة الثانية، فيما يتصل بالعلاقة بين سوق النقود وسوق السلع، فإنها تتطلب وضع مجموعة سياسات فرعية متكاملة لضبط كمية النقود (M2 + M1) وضبط الائتمان المصرفى، وحركة أسواق المال بما فيه النشاط التأمينى. وتنبع أهمية ضبط العلاقة بين السلع والنقود لمن ضرورة تجنب الضغوط التضخمية الملازمة للتوسع النقدى غير المصحوب بزيادة موازية لمعدل النمو الاقتصادى.
خامسا: أما فيما يتعلق بقضية رأس المال فقد سبق أن تناولتها دراسات متعددة، وذلك من خلال التأكيد على ضرورة إنتاج «سلع رأس المال»، لتحقيق التوازن بينها وبين كل من السلع الوسيطة وسلع الاستهلاك. هذا ما يعبر عنه بتعميق رأس المال أو «التعميق التكنولوجى» فى كل من المجال السلعى والمجال الخدمى.
خلاصة استنتاجية
انطلاقا مما سبق، نقدم فيما يلى خلاصة استنتاجية عن عدة توجهات ــ خمسة ــ (أطلقنا عليها «وصايا»، تأكيدا لأهميتها البالغة) حول القضايا آنفة الذكر، تمثل تصورا حول ما ينبغى عمله لمواجهة المشكلات وتقديم مفاتيح الحلول، سعيا إلى تجنب الهزات الاقتصادية بأشكالها المتباينة.
1ــ من أجل مواجهة التقلبات الدورية، نرى ألّا يكون التركيز على مواجهة الركود منفردا أو التضخم منفردا، ولكن على مواجهة «الركود التضخمى»، أى معالجة الركود والتضخم فى آن معا.
من ثم ينبغى اتباع سياسة مزدوجة تجاه ما يسمّى «المعلمات الاقتصادية الكلية»، وخاصة سعر الفائدة وسعر الصرف. بحيث يكون لسعر الفائدة مدلول «توسّعى» تجاه الطاقات الإنتاجية أو «إنعاشى»، ويبتعد بقدر الإمكان عن سياسة التشديد المالى والنقدى، لينفتح على آفاق الادخار والاستثمار الإنتاجى، شرط أن يكون التوسع محسوبا فلا يسهم فى رفع معدل التضخم النقدى والسعرى.
وهنا يجب التركيز على محاربة الركود بالذات، بالسياسة «التوسعية» ــ الإنعاشية ــ سواء فى الجانب المالى (من خلال سياسات الضريبة والدعم) أو فى الجانب النقدى (عبْر موازنة حجم وتركيب «الكتلة النقدية» فى حدود معقولة لا تسمح بالتضخم المتسارع).
2ــ فى مجال التوازن بين العرض الكلى والطلب الكلى: نرى أن يتمّ اتباع «سياسة اقتصادية كلية» موجهة نحو العرض Supply ــ oriented من خلال زيادة الطاقات الإنتاجية. وتكون الأولوية إذن للإنتاج قبل مجرد توسيع هامش الطلب، وهذا مما يحفظ القوة الشرائية للعملة المحلية.
3ــ التوازن السلعى ــ النقدى: ونؤكد هنا على عدم الإفراط فى زيادة كمية النقود حتى لا تسهم فى إشعال فتيل الضغوط التضخمية، نتيجة عدم التوازن بين الجانبين الاسمى والحقيقى، أو بين النقود والسلع. وينعكس هذا ــ من بين أمور أخرى ــ على أهمية ضبط (الإصدار الجديد) للعملة الورقية (والمعدنية أيضا) وخاصة من خلال «طبع» الأوراق النقدية لدى البنك المركزى. مع التأكيد على أهمية ضبط الحدود الائتمانية (حجم وتركيبة الإقراض والاقتراض) وأسعار الفائدة الدائنة والمدينة.
4ــ توازن ميزان المدفوعات: من حيث ضرورة المزج بين سياسة «تعزيز الصادرات» وسياسة «إحلال الواردات»، مع منح الأولوية، قدر الإمكان، للأخير (إحلال الوارد) سعيا لإنعاش الدائرة الإنتاجية، وترشيد استخدام العملات الأجنبية.
5ــ تعزيز تكوين رأس المال بأشكاله المختلفة: بالتركيز على رأس المال العينى الموجّه نحو «الملاءمة التكنولوجية»، عن طريق بناء «خلطة مناسبة» من التكنولوجيات المختلفة. ونشير بصفة خاصة هنا، إلى ضرورة الحرص على «التعميق الصناعى والتكنولوجى»، عن طريق تصنيع السلع الرأسمالية (الآلات والمعدات) والوسيطة (مستلزمات الإنتاج) وكذا تطوير الخدمات العلمية ــ التكنولوجية بالوسائل المختلفة وبالأدوات المتنوعة ــ الرقمية وغير الرقمية. ويرتبط بذلك، الحفاظ على مستوى مناسب للادخار والاستثمار، والأهمّ: توجيه التكنولوجيا لتلبية احتياجات المجتمع، وبالتحديد: الغالبية الاجتماعية التى يمكن تمثيلها بنسبة 80% من السكان، بعيدا عن مجرد تلبية «الكماليات» التى تستعملها وتستهلكها (الأقلية الثرية).