مثلما فعلت الثورة فى مصر، تكشف الثورة فى سوريا لنا خبايا عديدة. كشفت الثورة فى مصر عن أمور فى حياتنا وأوضاعنا وموازين القوى الداخلية لم نكن نعرفها، أو كنا نعرفها ولكن بالغنا فى أهميتها أو قللنا من شأنها. أما فى سوريا فقد كشفت الثورة بشكل واضح عن أمور فى العلاقات العربية ـ العربية كانت تعصى على الحسم فجاءت الثورة لتحسمها، وأمور فى العلاقات العربية ـ الإقليمية كانت غامضة فانجلت، وأمور فى العلاقات الدولية كانت محل اجتهاد وتنظير فصارت أقرب كثيرا إلى الواقع.
المزعج فى الحالتين أن الثمن الذى دفعه الشعبان السورى والمصرى ليكتشفا أمورا كانت غامضة أو خبايا كانت غائبة كان ثمنا باهظا. يزعجنى رغم اقتناعى المتزايد بمرور الوقت بأنه ما كان يمكن أن نكتشف ما اكتشفناه خلال الشهور التى مرت علينا خلال الثورة بدون المعاناة والتضحيات والخسائر التى تحملناها، وما زال أمامنا الكثير منها. ما كان يمكن بدون الثورة أن نعرف بالدقة الواجبة الحجم الحقيقى للتيارات الدينية فى المجتمع المصرى، وبعد أن عرفنا حجم هذه القوى أمكن أن نتعرف على بعض جوانب قوتها والكثير من جوانب ضعفها. عرفنا مثلا، وعرف الناس بعد أن أدوا واجبهم الانتخابى، أنه فى السياسة لا يجب أن ننتظر النائب أو الحزبى أو الزعيم «الكامل» فى الأخلاق وفى أهليته لتمثيل الشعب والدفاع عن حقوقه. عرفنا، أن للسياسى «الدينى» أو للدينى «السياسى» شهوة للسلطة وامتيازاتها وسلوكياتها ليست أقل من شهوة العلمانى والليبرالى والقومى والاشتراكى والمستقل. عرفنا، ويعرف القاصى والدانى، أن قلة الخبرة والانبهار بالفوز وإغراء السلطة، كلها معا، تدفع نحو ارتكاب أخطاء جسيمة فى العلاقات بين قوى السلطة الإسلامية فى الداخل والخارج والأمثلة تتعدد يوما بعد يوم، وتدفع نحو الإساءة إلى العلاقات بين الدول العربية من ناحية والدول الإقليمية من ناحية أخرى. بمعنى آخر يزداد اقتناعى الشخصى بأن النظام الإقليمى يتحول متدرجا ومتسارعا فى آن واحد فى اتجاه نظام «صراعات» ذات طابع إسلامى ولكن تحت رايات «الدولة الوطنية».
عرفنا أيضا المدى الحقيقى لقوة المؤسسات الأمنية وكفاءة أدائها. عرفنا أنها فقدت، مع مرور الزمن، قدرتها على قيادة المجتمع باستخدام قوة الإقناع وسحر القدوة لدعم قوة القمع، واستبدلتهما بقوة القهر وإرهاب الدولة غير عابئة بشعبيتها أو شرعيتها. اكتشفنا فى مصر كما اكتشف الأشقاء فى سوريا وتونس واليمن المدى الذى وصل إليه ضعف القوى المدنية والتيارات الليبرالية وانعدام أو قلة الخبرة السياسية لدى أطراف المعارضة.
●●●
تلك كانت بعض إنجازات الثورة المصرية، تحسب إلى جانب تنحية رئيس النظام الحاكم وبعض أفراد حاشيته وعدد محدود جدا من أعضاء طبقة رجال الأعمال، التى اعتمد عليها النظام أكثر من اعتماده على المؤسسة العسكرية.. هناك إنجازات أخرى على صعيد الإقليم، ولكنها لم تكن بأهمية بعض الإنجازات التى حققتها الثورة السورية على الصعيد ذاته، أى أن نعلم بعض ما لم نكن نعلمه. نعترف بأن كثيرا من الأمور الخارجية التى نتعامل معها الآن كعناصر حل أو تعقيد فى الأزمة السورية كانت غائبة تماما أو غائبة نوعا ما عن ظاهر الحال قبل قيام الثورة.
اكتشفنا مثلا، صحة ما ذهبنا إليه، وذهب إليه محللون كثيرون فى الغرب عن انسحاب متعمد من جانب الولايات المتحدة من ممارسة دور القيادة بشكل عام وفى قضايا دولية بعينها بشكل خاص. يزعم بعض الأمريكيين من ذوى الميول الصهيونية ومن المحافظين الجدد، وبينهم كارهون لشعب سوريا وحكومته فى آن واحد، أن الولايات المتحدة تتحمل مسئولية الزيادة المريعة فى استخدام العنف ضد المتظاهرين فى سوريا بسبب تخليها عن مهمة قيادة الحملة الدولية ضد النظام السورى. هؤلاء يريدون توريط أمريكا فى أزمة دولية جديدة بعد أن فشلت مساعى توريطها ضد إيران. ومع ذلك لا يمكن إنكار أن التدخل الأمريكى فى التمهيد لتغيير فى سوريا مثل تدخلها فى التمهيد لتغيير فى دول أخرى وتدخلها فى تطور الثورات بعد اشتعالها كان مترددا ومتقطعا، وفى أحيان كان متناقضا مع ذاته ومع تدخلات أخرى، وهو الأمر الذى كان سببا فى توتر العلاقات مع دول عربية كما حدث خلال الأيام الأولى للثورة المصرية، وكان سببا فى أخطاء جسيمة ارتكبها حلف الأطلسى فى تدخله فى ليبيا، ودفعت الثورة السورية حتى الآن ثمنا فادحا له بسبب تدخل روسيا القائم على سياسة رفض التدخل.
واضح تماما، الآن، أن روسيا لم تغفر لفرنسا وبريطانيا ما فعلتاه فى ليبيا وأدى إلى إزاحتها والإضرار بمصالحها، وإن كان فى ظنى أن موسكو ليست حريصة، حرص إيران حتى الآن على الأقل، على استمرار الرئيس السورى فى منصبه ولكنها بالتأكيد لن تسمح بسهولة للدول الغربية بأن تزيحها من سوريا كما أزاحتها من ليبيا، وقبلها من العراق، ففى الحالتين كانت الخسائر الروسية كبيرة. فى لقاءات خاصة لم يخف مسئولون روس رأيهم، الذى لا يبتعد كثيرا عن آراء متناثرة صادرة من محللين إيرانيين، أن المعارضة السورية لم تنجح فى إقناع كل من روسيا وإيران وحزب الله ومصر والعراق وأطراف أخرى بأن مصالحها ستكون فى أمان. فالمعارضة لم تتوحد ولا يبدو أنها ستفعل ذلك فى الأجل القصير، فضلا عن أنها عجزت عن طرح صورة مقبولة لمستقبل سوريا فى النظام الإقليمى.
كنا نعرف أن روسيا والصين، وربما بقية دول «بريكس» بخاصة البرازيل والهند، حاولت مد مسافة تفصل بينها وبعض سياسات دول الغرب، وأنها ربما أفلحت فعلا فى صنع هذه المسافة ثم تثبيتها. الجديد فى الأمر بفضل الثورة السورية، أننا أصبحنا على ثقة أكبر فى صحة هذا التحليل وأننا ربما كنا فى حاجة إلى تطورات ثورية على هذا القدر من الخطورة والجسامة لنختبر قوة تصميم الدول الخمس الناهضة بخاصة الصين وروسيا على انتهاج سياسات خارجية مستقلة عن السياسة الغربية.
●●●
لا تقتصر «إنجازات» الثورة السورية على نجاحها فى إبراز مدى التحول الحادث فى العلاقات بين القوى الدولية الأكبر. فقد اكتشفنا أيضا مدى قوة التزام حكومة الطيب أردوجان بخطة حكومته توسيع النفوذ التركى فى دول الشرق الأوسط، بخاصة الدول العربية. لقد بدا واضحا خلال الأيام القليلة الماضية أن أنقرة أعادت النظر فى تفاصيل سياستها الخارجية فى المنطقة العربية ومع إيران، ولكن مع سوريا بشكل خاص. أدركت أنقرة فيما يبدو أن التقييم الأولى للثورة وقوى المعارضة وقوة النظام والتعقيدات الاستراتيجية المحيطة بسوريا، لم يكن دقيقا أو كان على الأقل متسرعا ومتأثرا بتطور الأوضاع فى تونس ومصر، وقد اتضح بما لا يقبل الشك أن خططا عديدة وضعت فى مطلع الثورة السورية ثبت بعد قليل أنها غير قابلة للتنفيذ، بسبب صعوبات داخل سوريا ولكن أيضا بسبب التغيرات شبه اليومية التى تحدث فى توازنات القوى الإقليمية المؤثرة فى الوضع السورى. أستطيع أن أتفهم القلق التركى من تدخل عسكرى، على أى شكل وبأى قوة، من جانب دول خليجية وليبيا عن طريق الأردن أو لبنان أو العراق، وأستطيع فى الوقت نفسه، أن أتفهم القلق الإيرانى من تطورات الوضع فى سوريا، حتى لو كان بعض مؤشراتها يشير إلى أن الثورة دخلت مرحلة الإنهاك دون أن يعنى هذا أن النظام على الطريق لتحقيق نصر حاسم.
●●●
لا يوجد كثيرون مستعدين لأن يراهنوا على عودة المنطقة إلى وضع أو أوضاع كانت عليها قبل نشوب ثورة تونس وما لحق بها من ثورات. لا عودة ولا يصح تسويق وهم العودة أو ما شابهه، والأسباب كثيرة ليس أقلها شأنا وإقناعا الأسباب المتعلقة بنشوب الثورة وكذلك كل ما يتعلق بملابسات ما كان يخطط له فى بعض أجهزة الغرب للتأثير فى أوضاع الحكومات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى قبل نشوب الثورات العربية. هناك أيضا التغيرات الجذرية فى أنظمة الحكم فى دولة أو أكثر من دول الثورات وتولى قوى «سياسية» جديدة مقاليد السلطة والنية المبيتة لدى هذه القوى لتغيير عقيدة الحكم فى المنطقة بأسرها