مسئولون كبار فى دول كثيرة، بعضها جار شقيق وبعضها جار غير شقيق وواحدة منها تضمر لمصر الشر، أو على الأقل تريدها دولة على «المقاس» الذى تختاره هى وليس ما يختاره شعب مصر، يسألون الرائح والغادى أسئلة لم يحن أوان طرحها، وبالتأكيد لا يجوز ممارسة الضغوط على المسئولين المصريين للحصول على أجوبة فورية عليها.
سمعتهم يسألون، واندهشت لحال الإنكار الذى يعيش فيه بعضهم. قليل من هؤلاء لا يريد أن يفهم ما يحدث فى مصر بأكثر من أنه تظاهرات تقوم بها فئات استغلت شيخوخة نظام ولحظة من لحظات ضعفه فقررت تصعيد مطالباتها للحصول على امتيازات معنوية أو امتيازات مادية. ولكن، مثل كل ألعاب الصبية والغوغاء، قد تتسع هذه التظاهرات أو تتطاير شرارات منها فتثير تظاهرات مماثلة فى دول عربية أخرى.
قال أحد المسئولين الكبار إنهم ربما أخطأوا فى البداية تقدير خطورة وأهمية ما يحدث، كانوا واثقين من قدرة جميع الأنظمة العربية الراسخة الأركان على تجاوز محنة من هذا النوع، ويعترف بأنه ورفاق له فى دول شقيقة استحسنوا جدا نصيحة الرئيس المصرى السابق للوزراء وموظفيه ومعاونيه بأن يتركوا الناس تتسلى أو تستمتع بتظاهرات وتنفث عن غضبها. ويعترف أيضا بأنه ورفاق له لم يصبهم قلق شديد عندما قرر الرئيس المصرى التنحى عن السلطة، «كنا واثقين أننا سوف نتمكن بوسائلنا وإمكاناتنا وعلاقاتنا بأشخاص ومؤسسات فى مصر من مساعدة الرئيس على استعادة السلطة والأمن والاستقرار»، وقال المسئول الكبير وأكدت ما يقول وسائل إعلام غربية إن مسئولين كبار فى دول شقيقة وغير شقيقة على اتصال يكاد لا ينقطع بأجهزة حكومية فى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. هؤلاء فاجأهم « هذا البرود الغريب فى مزاج واشنطن السياسى» حتى تصور البعض منهم لبعض الوقت أن وراء هدا البرود خطة مرسومة بعناية ويجرى تنفيدها فى ظل اقتناع أمريكى وبريطانى بأن أمر هذه الثورات محكوم فى النهاية بسلسلة من القيود تمنع انفلاته فتضار المصالح الغربية فى مصر أو الشرق الأوسط عموما.
<<<
ثلاثون عاما اعتاد خلالها المسئولون فى الشرق الأوسط الاعتماد على سياسة خارجية مصرية تراعى الحفاظ على الحد الأدنى من مصالح مصر القومية ولا تتجاوزه والحفاظ على الحد الأقصى من مصالح دول معينة فى الإقليم وتجاوزته حينما كانت تتنازل، واستطاعت القيادة المصرية خلال هذه الفترة التعيسة من حياة الدبلوماسية صياغة مفهوم فريد للأمن القومى ودور مصر الإقليمى، خضع فى أوقات معينة لتعديل أو آخر استجابة لأهواء أو مصالح مادية عائلية أو أو شعبية. هكذا تمت صياغة مبادئ وخطوط عامة لدبلوماسية مصر، دبلوماسية تجيد التزام القيود والحدود وتهتم بالشكليات وترفض تطوير المحتوى وتتعمد عدم الاستجابة للتحولات الدولية والإقليمية. هكذا أيضا، تم تأمين دول شقيقة ودول غير شقيقة والعدو الإسرائيلى والولايات المتحدة ضد خطر أن تعود دبلوماسية مصر إيجابية وقوية وذات طباع تنويرية أو وهو الأشد خطرا أن تعود مصر إلى وضع الدولة الإقليمية الساعية إلى تغيير قواعد تسيير النظام الإقليمى وشروط حسن الجوار وأسس إقامة التحالفات ومنظومة القيم، التى حكمت لثلاثين عاما أو أكثر العلاقة بين المكانات والإمكانات أو بين الإمكانات وبعضها البعض.
<<<
أما السؤال الذى سمعت مسئولين أشقاء وغير أشقاء يرددونه فكان عن العلاقة بين الأحداث الناشبة فى داخل مصر سواء اعتبرناها ثورة أم انتفاضة أم تغيير نظام، وبين علاقات مصر الداخلية. إذا لم يكن قد حدث فى مصر حتى الآن تغيير فى العلاقات القائمة بين طبقات المجتمع فالأمر المنطقى هو ألا يتوقع الأشقاء وغير الأشقاء تغييرا مهما فى علاقات مصر الخارجية.إذا كان الأمر لم يخرج عن أن رئيسا للدولة أزيح من منصبه ليحل محله رئيس آخر أو لجنة رئاسية أو مجموعة حاكمة من صلب الطبقة السياسية، التى هيمنت على مقاليد مصر على امتداد العقود الأخيرة فمن واجب من بيدهم الأمر، أن يبعثوا إلى الدول الشقيقة ودول الجوار أصدقاء كانوا أم أعداء برسائل تطمئنها إلى أن التغيير لن يتجاوز قشرة المجتمع ولن يبدل تبديلا شديدا فى تراتيب النخب حاكمة كانت أم معارضة وفى أولوياتها الخارجية.
<<<
لم يدر بذهنى أن يوما سيأتى يصبح فيه قرار القادة العرب تعيين أمين عام لجامعة الدول العربية خاضعا لإرادة قطاعات شبابية وغير شبابية تموج بها ميادين مصر وشوارعها ومنتدياتها وشبكاتها الإلكترونية. لا أفهم كيف يمكن أن يستكثر البعض من خارج مصر ومن سياسييها على «الثوار» رفضهم المدوى ترشيح شخصية معينة لمنصب أمين عام جامعة الدول العربية، وهم الذين سبق أن أزاحوا رئيسا للجمهورية وعائلة رئاسية وأقطاب نظام من أعتى وأقدم الأنظمة الحاكمة فى العالم العربى. هذه «التفصيلة» الصغيرة من جملة تفاصيل أكبر تعبر عن المدى الدى يمكن أن يصل إليه فهم «الثوار» للتغيير، رغم أنها فى نظرهم لا تخرج عن كونها قطرة فى تيار أثبت قدرته على الانتشار رأسيا وأفقيا فى هياكل النظام الإقليمى العربى ومؤسساته. ينسى مسئولون عرب، وبينهم مسئولون مصريون، أن لا حصانة تتمتع بها دول ضعفت مناعتها ضد انتقال الثورة بالعدوى. نكتشف الآن، وكل يوم، أن الأطفال فى منازلنا والمدارس يطالبون بما لم متصورا أن يطالبوا به قبل شهرين، وأن الناس فى عديد المدن العربية تفترض فى نفسها القدرة على التزام سلوكيات مختلفة.
أعلم أن أصواتا عديدة فى مبنى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية تدعو لثورة فى مؤسسات العمل العربى المشترك، بعد أن تعبت الأصوات وبحت لإصلاح هذه المؤسسات مضمونا وهدفا وآليات وبشرا، لا يعقل والأمر على هذه الحال أن يطالب مسئولون عرب بعزل اهتماماتنا الخارجية عن تطورات شئوننا الداخلية. تارة يلمح الإعلام الرسمى فى عدد من دول الأشقاء إلى ضرورة توقف «الثورة» المصرية عند الحد الدى بلغته. «رسالتكم وصلت، دعونا الآن نعود إلى حال مستقرة ونستأنف ما تعودنا أن نفعله على امتداد عقود أو قرون». تارة أخرى يخرج إعلاميون رسميون متجاوزين حدود الاتزان ليعتبوا على مصر سماحها لحكومة تصريف أعمال إعلان نيتها تطوير سياسات مصر الخارجية. بمعنى آخر مطلوب من مصر إن أصرت على الاستمرار فى نهج الثورة عزل الداخل عن الخارج على أساس المنطق، الذى ساد ثلاثين عاما والقائل بأن الداخل شأن مصرى يجوز لشعب مصر التدخل فيه، أما الخارج فشأن إقليمى ليس من حق مصر حكومة أو شعبا التدخل فيه.
<<<
علمتنا التجارب أنه ما لم تحرك مصر المياه الراكدة المحيطة بأرضها وبحارها وأجوائها، وما لم تدفع بأفكار جديدة تحيى بها النظام الإقليمى، وما لم تتفاعل إيجابيا مع دول فى الجوار ودول بعيدة عن الجوار مستندة إلى طاقة ثورية غير محدودة، فستعود منكفئة على داخلها مطعون فى ذمتها مهدورة كرامتها، تعود كارهة لحاضرها وماضيها وفاقدة الأمل فى مستقبلها. لا جدال فى أن تطوير خطوط دفاعاتنا الخارجية يتوقف الآن على ما يمكن أن تقدمه الدبلوماسية المصرية من إبداع واستراتيجيات للتغيير الخلاق.