كم مرة تعرضت الصحف داخل مصر وخارجها لتكذيب بعض قصصها الإخبارية كليا أو جزئيا، ثم أثبتت الأيام أن الصحف لم تكن تكذب؟ وليس معنى هذا بالضرورة أن المسئول أو المصدر الذى أصدر النفى والتكذيب، كان كاذبا، ولكن المعنى الأرجح هو أن الحسابات السياسية اقتضت ذلك، وهذا شىء مقبول فى المعترك السياسى، أو أن المسئول لم تصل إلى علمه بعض جوانب القصة من مصادرها الطبيعية حتى يعتبرها معلومات صحيحة.
أشهر قصة من هذا النوع فى التاريخ الصحفى القريب لمصر، هى تقرير محطة الجزيرة عن قرار مفاجئ بعدم مشاركة الرئيس حسنى مبارك فى قمة بيروت العربية عام 2004، على الرغم من أنها كانت أول قمة تعقد بعد إقرار نظام دورية انعقاد القمة العربية سنويا بضغط ومبادرة من الرئيس مبارك شخصيا.
على امتداد ثلاثة أيام بعد أن أذاعت الجزيرة هذا الخبر تبارت المصادر المصرية فى نفى صحته ولم تكن تخلو نشرة أخبار فى أرجاء الدنيا من مصدر مصرى يتهكم على الجزيرة، وكتب رئيس تحرير إحدى الصحف القومية الكبرى وقتها يسخر من مصادر الجزيرة الإخبارية قائلا: إن هذه المحطة تستقى معلوماتها من باعة البطاطا، فما الذى حدث؟ القصة معروفة لم يذهب الرئيس إلى قمة بيروت وقيل بعدها إن هذا القرار اتخذ لأن رئيس الوزراء الإسرائىلى وقتها أرييل شارون كان ينوى عدم السماح بعودة الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات إلى رام الله إذا ذهب إلى بيروت لحضور القمة، ومن ثم فقد كان مثل هذا التطور سيضع الجميع فى حرج لا داعى له، وحسب معلوماتى فقد كان هناك أسباب أخرى وراء ذلك القرار إلى جانب السبب المعلن، ولكن من حق المسئول السياسى أن يختار ما يعلن وما لا يعلن، ومن حقه أن يعلم بقراره، وأسباب هذا القرار المستويات التالية له فى المسئولية الرسمية، أو لا يعلمهم حسب تقديره، ولكن من حق الصحافة ألا تكون هى المسئولة عن هذه التناقضات، مادامت واثقة من صحة معلوماتها.. التى قد يتأخر إثبات صحتها بعض الوقت، كما حدث فى القصة السابقة.
ومن حكايات النفى والإثبات بين الصحافة، والحكومة فى مصر كذلك عدة وقائع شهيرة أيضا حول التغييرات الوزارية، فالرئيس حسنى مبارك شخصيا صرح ذات مرة بأنه كان ينوى تغيير الحكومة، ولكنه عدل عن ذلك لأن الخبر نشر فى الصحف، فهل كانت الصحيفة التى نشرت الخبر «الصحيح» وقتها كاذبة؟!
وقد تكرر مثل ذلك فى مسألة التعديلات الدستورية، فقد أعلن ردا على المطالبات بتلك التعديلات بأنها باطلة، وتهدد الاستقرار، ثم لم تلبث التعديلات أن أعلنت فى مشهد تاريخى، وكما اتضح من تصريحات رئيس الجمهورية نفسه فيما بعد أن النية كانت متجهة منذ فترة إلى تعديل الدستور، ولم يعلم بها الرئيس إلا عددا قليلا من معاونيه منهم الوزير «السابق» كمال الشاذلى.
ثم هناك حكاية الاختلاف فى النص بين الأهرام وأخبار اليوم فى نشر حديث شهير للرئيس مبارك إلى الأستاذ أحمد الجار الله رئيس تحرير صحيفة السياسة الكويتية، ورغم أن بيان رئاسة الجمهورية امتدح أخبار اليوم، واعتمد النص المنشور فيها بوصفه النص الدقيق، فإن الأهرام التى اضطرت إلى نشر تكذيب، أو تخطئة الرئاسة للنص المنشور فيها لم تكن قد جاءت بشىء من عندياتها ولكن النص الذى وصلها من «السياسة الكويتية» قبل أن يعدل أولو الأمر فيه وفقا لتقديراتهم لما يقال أو لا يقال، وما يبقى وما لا يبقى من الحديث، الشىء الذى لم تخطر به الأهرام علما فى الوقت المناسب وعليه، فلم تكن الأهرام هى المخطئة فى تلك القصة كلها.
هذه الأمثلة كلها وغيرها فى تاريخنا القريب، كثيرا ما حدث مثلها فى التاريخ الأبعد نسبيا، فمن ذا الذى لا يتذكر من المخضرمين أمثالى أن الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر دأب على نفى كل التقارير حول الخلافات بين أجنحة نظامه السياسى، وكان يردد عبارة دائمة فى كل خطبة يقول فيها: «ليس لدينا يمين ولا يسار» ردا على التقارير المتحدثة عن خلافات بين الاتحاد الاشتراكى والحكومة، أو داخل الحكومة، أو الاتحاد الاشتراكى نفسه، وبين الجميع والمؤسسة الأمنية.. إلخ.، وهى خلافات ثبت فيما بعد أنها كانت أوسع، وأشد ضراوة من كل التقارير التى تحدثت عنها، ثم نفيت، كذلك كان الأمر فى عهد الرئيس السابق أنور السادات، فقد نفيت تماما الأنباء عن الخلافات بين حكوماته، وبرلمانه، وكذلك داخل هاتين المؤسستين، وغيرها من مؤسسات النظام، ثم سردها بالتفصيل الأستاذ موسى صبرى فى كتابه عن السادات فيما بعد.
ولا تقتصر هذه الملاحظة على حكومات ورؤساء نظام ثورة يوليو، بل إن الإخوان المسلمين أنفسهم ليسوا براء منها، فهم فى كل يوم ينفون وجود أجنحة وتيارات وتباينات إلى حد التناقض فى داخلهم، مع أن هذا طبيعى ويجب أن يكون فى محل فخر، فأى حزب أو جماعة سياسية فى الدنيا ليس فى داخلها تحالفات أو كتل أو تباينات، أوحتى انشقاقات؟ أظن أن مثل هذه الجماعة أو التنظيم لم يوجد بعد، بما فى ذلك الأحزاب الناشئة والنظم الدكتاتورية، فالخلاف والتباين من حتميات الحياة، وقديما قيل، ولايزال يقال فى الأمثال «إن الامعاء تتصارع داخل البطن الواحدة».
وبطبيعة الحال فإن كل من يعمل فى السياسة أو الصحافة يدرك أن هناك تكتيكا اسمه التسريب وتكتيكا آخر اسمه إطلاق بالونات الاختبار، وهى أشياء تحدث فى الدنيا كلها، والمهم هنا أن تتأكد الصحافة من دقة المعلومة ومن أهلية المصدر، وألا تستخدم فى هذه التكتيكيات كلها إلا بهدف واحد هو إطلاع قارئها على ما تعرفه أو ما عرفته، دون أن تستخدم لحساب هذا الطرف أو ذاك من أطراف اللعبة السياسية، وأن تنشر كل ما يصل إليها من معلومات محتفظة بمسافة متساوية من الجميع.
إلى جانب كل ما تقدم هناك خصائص للعلاقة بين الصحافة والسلطات فى الدول التى لم يكتمل تطورها الديمقراطى بعد، مثل مصر والواضح أن العلاقة بين الصحافة والسلطات الحكومية فى مصر هى علاقة صراع بين الحصول على المعلومة من جانب الصحف، وبين إخفاء المعلومة من جانب السلطات، خاصة إذا تعلقت المعلومات بجوهر النظام السياسى، أو بالخلافات والأولوليات داخله، وفى هذا السياق فليس فى الأمر مصادفة أن كل الحملات الضاغطة من أجل إصدار قانون حرية تداول المعلومات باءت بالفشل، ولاتزال قضية القمح الروسى وما إذا كان فاسدا أم غير فاسد تقدم لنا مثلا صارخا على فشل الصحافة لأسباب حكومية فى الوصول إلى جميع المعلومات، لكن القصة تثبت أن هناك صراعا محموما يدور بين عدة جهات مؤثرة فى الحكومة نفسها، وكل منها يحاول ترويج وجهة نظره فقط، وحجب بقية الجوانب، وقد فشلت لجان مجلس الشعب نفسها فى الوصول إلى الحقيقة، مما تطلب تدخل السلطة القضائية وهو تدخل لم يكتب بعد الفصل الختامى فى تلك القصة.. فماذا تفعل الصحافة التى هى فى الأصل ناقلة للحدث، وليست صانعة له؟!