لا يكاد يمر أسبوع دون أن نقرأ خبرا عن وفاة محتجز فى قسم من أقسام الشرطة. الأسباب المعلنة كثيرا ما تدور حول هبوط حاد فى الدورة الدموية ساعدت عليه رداءة أماكن الاحتجاز وسوء التهوية. الفاعل هنا مجهول أو لا يمكن لومه. فمن له أن يلوم الحَرَّ أو الدورة الدموية؟ لا أحد بالطبع. نحن أمام عوامل خارجية قاهرة. هناك «ضغط» ملحوظ على أقسام الشرطة. والمحتجز نفسه ربما يعانى من مرض يجعله أكثر عرضة للتأثر بالظروف غير الملائمة فى أماكن الاحتجاز. هى إذن أقدار ومن منا له أن يلوم القدر؟
لا أخفيك أن الحقيقة تختلف كثيرا عن هذه الصورة. فالبشر، بصراحة، لا يموتون بهذه السهولة. قدرة الجسم البشرى على مقاومة الظروف السيئة تتجاوز بشكل ملحوظ قدرة الكتاكيت التى كنا نربيها على أسطح المنازل ونحن صغار. كان من الطبيعى فى حالة الكتاكيت أن نفاجأ فى كل صباح بأن واحدا منها مات لسبب أو لآخر: جوع، أو عطش، أو حر، أو أسباب أخرى غير معلومة. مع البشر يحتاج الأمر لأكثر من أن يوضعوا داخل غرفة «رديئة التهوية» لكى تزهق أرواحهم بهذه التلقائية.
منذ نحو عامين قامت وزارة الداخلية بما يمكن اعتباره تجربة فى القتل بالحشر والزحام. خمسة وأربعون شخصا أرغموا على الدخول فى سيارة ترحيلات تكفى بالكاد ثلث هذا العدد. انتهت التجربة التى جرت فى الثامن عشر من أغسطس عام 2013 بمقتل سبعة وثلاثين منهم. ومتابعة التفاصيل يتضح لنا أن قتلهم لم يكن سهلا. فرغم أن المحتجزين أرغموا على الدخول فى صندوق معدنى بفتحات تهوية محدودة ودون أن يكون معهم ماء للشرب فى حر قائظ بلغ 31 درجة مئوية، ورغم أنهم قضوا ستة ساعات كاملة يصرخون، ويدقون جدران العربة، ويتوسلون لحراسهم طلبا للماء والهواء، إلا أنهم كانوا حتى هذه اللحظة لا يزالون على قيد الحياة. لم يموتوا إلا بعد أن ألقى حراسهم قنبلة غاز داخل هذا الجحيم الخانق، لننتهى بمأساة وعار ستعيش ذكراهما معنا أبد الآبدين.
كلما قرأت عن «موت» محتجز فى قسم شرطة، يصعب على أن أقتنع بالعبارة المصاحبة: «وقد تبين أن الوفاة ناتجة عن هبوط حاد فى الدورة الدموية». الأقسام التى تكدست ووصلت الأعداد فيها إلى أربعة أمثال طاقتها الاستيعابية لا يسقط فيها أحد من تلقاء نفسه. أكاد أسمع الصراخ والدق على الأبواب والاستغاثة لساعات قبل أن ينهار الجسد ويدخل فى غيبوبة حتى الموت.
مجتمعنا وصل إلى درجة من الغلاظة إلى حد الاعتياد. الكل يصم آذانه عما يجرى، والتعذيب والقمع والانتهاكات تستمر دون أن يشعر كثيرون بالقلق.
أحيانا أتساءل عن موقف الرئيس الذى قال إن شعبه نور عينيه والذى أكد البعض أن عدله قارب عدل عمر بن الخطاب. هل يجهل ما يجرى؟ هل تصله تقارير المؤسسات الحقوقية عن التعذيب؟
هل سمع عن العشرات الذين اختطفوا قسرا وانكرت الداخلية أنها تعرف عنهم شيئا حتى بدأوا يظهرون تدريجيا فى السجون والمحاكم؟
هل يعرف أنه مسئول؟
هل يعرف أنه لن يتمكن من التنصل من المسئولية لأن فى مقدوره أن يوقف كل هذه الانتهاكات بمكالمة هاتفية واحدة؟
مكالمة واحدة فقط.. ربما نعود بعدها بشرا مثل باقى البشر.
هل يعرف؟