نشرت مجلة فورين أفيرز مقالا بتاريخ 9 يونيو للكاتب ناديج رونالد، تناول فيه محاولات وجهود الصين لبسط نفوذها على دول الجنوب لتقييد الهيمنة الأمريكية العالمية، وما المطلوب من الولايات المتحدة لمواجهة الجهود الصينية... نعرض من المقال ما يلى:
يسعى الرئيس الصينى شى جين بينج إلى مساعدة بلاده فى الوصول لما يعتبره قلب المسرح العالمى. للقيام بذلك، يحاول شى تعزيز القوة الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية للبلاد. كما يعمل، مع باقى القيادات الصينية، على مواجهة الضغط الأمريكى فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ. رغبة شى فى تحويل الصين إلى أقوى دولة فى العالم تقترن بهدف طبيعى: حتمية وقف ما يراه جهودا من قبل الغرب لاحتوائها.
لكن استراتيجية الصين الكبرى تتضمن مكونا إضافيا: تأكيد موقعها المهيمن على مجموعة مختلفة من الدول؛ فصناع السياسة الصينيون يحاولون إنشاء مجال نفوذ لا يشمل فقط المنطقة المتاخمة لبلدهم مباشرة ولكن أيضا العالم الناشئ بالكامل وغير الغربى وغير الديمقراطى إلى حد كبير أو ما يعرف باسم «الجنوب العالمى». هذه المنطقة تشمل أمريكا الجنوبية والوسطى وأفريقيا وآسيا. وسيكون تأمين الهيمنة على هذه المجموعة الشاسعة من الدول من شأنه أن يوفر قاعدة قوية للصين تقيد تصرفات الولايات المتحدة ونفوذها. فى النهاية، يمكن أن يساعد ذلك فى وضع نهاية للهيمنة الأمريكية العالمية.
اعتنق هذه الاستراتيجية ماو تسى تونج، تصور ماو جبهة موحدة تجمع بلدانا من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتشكل العالم الثالث، فى معركة مشتركة ضد العالم الأول (الولايات المتحدة والغرب). وفى غضون ذلك، كانت الصين تقوم بتحييد العالم الثانى، المكون من قوى وسطى مثل أستراليا، وكندا، واليابان، وغيرهم. اعتقد ماو أن جبهة موحدة من البلدان النامية بقيادة الصين يمكن أن تطوق وتعزل القوى المهيمنة. ولتحقيق هذه الغاية، ابتداء من منتصف الخمسينيات من القرن الماضى، قدمت بكين مساعدة فنية ومالية لحركات التحرير الثورية والمناهضة للاستعمار فى العالم الثالث.
ومع ذلك، أدت الاضطرابات الداخلية الصينية والوسائل الاقتصادية المحدودة فى نهاية المطاف إلى تقييد قدرتها على تعزيز تحالف فعال مناهض للهيمنة. وعندما تولى دينج شياو بينج السلطة بعد وفاة ماو، تخلى عن الحماسة الثورية لسلفه، وأعطى الأولوية لبناء القوة الوطنية للصين. لكن ظلت الدول النامية مهمة لبكين، لأسباب أيديولوجية وجيوستراتيجية مختلفة، كما ساعد الجنوب العالمى فى خدمة أهداف التنمية الوطنية للصين، بما فى ذلك تمكين وصولها المستمر إلى الطاقة والموارد الطبيعية لتغذية اقتصادها المتنامى. كما ظل خلفاء دينج مهتمين بالإمكانيات الاقتصادية للعالم النامى حيث شجعوا الشركات الصينية على «الخروج» وغزو أسواق جديدة فى الخارج. ولا أدل على ذلك من إدراج مؤتمر الحزب الشيوعى الصينى السادس عشر، فى عام 2002، رسميا البلدان النامية على أنها «الأساس» لدبلوماسية الصين.
• • •
الصين تغذى البلدان النامية من أجل تحقيق أهداف جيوسياسية رئيسية. بكلمات أوضح، من خلال الاستخدام العلنى للمساعدات الاقتصادية والاستثمار المشروط، جعلت الصين دولا فى جنوب الكرة الأرضية تقطع العلاقات مع تايوان، مما يساعد على خنق الجزيرة دبلوماسيا. ومن خلال مزيج من الحوافز والنداءات المعادية للغرب، استفادت بكين من أصوات الدول النامية فى الأمم المتحدة لتجنب الإدانة الدولية لانتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان.
بشكل عام، رأت الصين أن الجنوب العالمى يمكن أن يلعب دورا حاسما فى مساعدتها ضد منافسها المهيمن، لا سيما أن الافتقار إلى الاهتمام الغربى بهذه المناطق سيجعل مهمتها أسهل. وبفضل مبادرة الحزام والطريق التى طرحها شى، أصبح حضور الصين محسوسا فى جميع أنحاء العالم، من دول جزر المحيط الهادئ إلى شواطئ إفريقيا الأطلسية.
ليس هذا فحسب، بل سيساعد الاستثمار الاقتصادى الصينى فى الجنوب العالمى على تعزيز النمو الاقتصادى والازدهار على المدى الطويل فى هذه البلاد. فمن المتوقع أن تنمو الطبقة الوسطى فى إفريقيا بما يصل إلى 800 مليون شخص على مدى الخمسة عشر عاما القادمة ــ وهو عدد يمكن أن يكون مصدرا جديدا هائلا للطلب على الشركات الصينية. كما قد تتمكن الشركات الصينية التى تبنى شبكات تكنولوجيا المعلومات فى جميع أنحاء العالم النامى من جمع مجموعات ضخمة من البيانات الرقمية يمكن استخدامها للمساعدة فى تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعى وهى خطوة لا غنى عنها نحو تحقيق طموح الصين فى أن تصبح الرائد التكنولوجى. أخيرا، كما هو موضح فى تقرير مايو 2022 الذى نشره المكتب الوطنى للبحوث الآسيوية، قد يكون استثمار الصين فى البنية التحتية الأفريقية مصمما للمساعدة فى تحويل القارة إلى منصة تصنيع متكاملة منخفضة التكلفة. باختصار، من الواضح أن بكين تأمل فى أن تساعد بلدان الجنوب العالمى فى تقليل اعتماد الصين على الأسواق الأمريكية والأوروبية مع إنشاء نظام اقتصادى فرعى قابل للحياة ومنفصل إلى حد كبير عن الغرب.
• • •
فى بعض مساعيها فى العالم النامى، تكرس الصين جهودها لضمان مشاركة أعمق من دول الجنوب العالمى لنزع الشرعية عما يعتبره الحزب الشيوعى الصينى «القيم العالمية المزعومة للغرب». وقد صوتت عدة دول نامية فى المؤسسات الدولية بطرق تعزز تفضيلات الصين، خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان. كما تشارك العديد من الاقتصادات الناشئة فى منصات تقودها الصين مثل الحوار بين بلدان الجنوب حول حقوق الإنسان؛ وتأييد المفاهيم الصينية مثل «مجتمع المستقبل المشترك»، وغيرهما. ومن خلال ذلك، يتم منح بكين مزيدا من السلطة على الخطاب الدولى. ولاشك أن إخفاقات الغرب ساعدت على نجاح مساعى الصين. فبعض البلدان النامية تشعر بخيبة أمل من النموذج الديمقراطى الليبرالى المدعوم من الولايات المتحدة، لاعتقادهم أنه فشل فى الوفاء بوعوده.
يمكن لنفوذ بكين المتزايد أيضا فى العالم النامى أن يعزز قدرتها على إبراز قوتها العسكرية. ففى عام 2017، أنشأت قاعدة بحرية فى جيبوتى، الدولة الواقعة فى شرق إفريقيا، وكانت لديها خطط لإنشاء موقع عسكرى أجنبى آخر على الأقل فى كمبوديا. من المرجح أن تتخذ الصين مزيدا من الخطوات لتعزيز وجودها الدائم بالقرب من نقاط الاختناق البحرية الأخرى وعلى طول الممرات البحرية الحيوية.
لكن لا يعنى أى من هذا أن بكين ستنجح فى أن تصبح القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية المهيمنة فى العالم النامى. بكلمات أوضح، قد تصبح الصين حذرة من عوائد الاستثمار المنخفضة من منطقة الجنوب العالمى وترى أن المنطقة تستنزف مواردها وبالتالى تتراجع عن المبادرات الخارجية الكبيرة. وفى الواقع، تراجعت بالفعل موجتها من مشاريع الحزام والطريق فى السنوات الأخيرة وقد تظل منخفضة مع استمرار تباطؤ النمو الاقتصادى فى البلاد. سترغب بكين أيضا فى تجنب المستنقعات الأمنية التى تعرض مصالحها للخطر. ولكن بغض النظر عن الصعوبات التى تنتظرها، فلا شك أن الصين ترى العالم النامى على أنه مسرح يتسم بأهمية استراتيجية متزايدة.
• • •
لا يبدو أن الولايات المتحدة قد استطاعت أن تستجيب بسرعة كافية لمواجهة جهود الصين تجاه الجنوب العالمى. فعلى مدى العقد الماضى، حاولت الولايات المتحدة حشد تحالفات بناء البنية التحتية، وإرسال مسئولين أمريكيين رفيعى المستوى إلى جزر جنوب المحيط الهادئ فقط عندما تناقش هذه الدول الاتفاقيات الأمنية مع الصين. ولا يبدو أن أيا من ذلك يمثل عناصر استراتيجية مدروسة. وفى الواقع، تستمتع بكين بمشاهدة رد فعل واشنطن كلما ظهرت شائعات عن قاعدة بحرية صينية جديدة.
لمواجهة بكين، مطلوب من الولايات المتحدة أن تحدد أولوياتها الخاصة بدلا من صياغة استراتيجية للجنوب العالمى بالكامل تتعلق بمنافسة الصين. فموارد الولايات المتحدة ليست لانهائية، ولا تحتاج واشنطن إلى المشاركة على قدم المساواة فى كل مكان. لذلك يجب على الولايات المتحدة أن تولى اهتماما خاصا للأماكن التى بدأت فيها الديمقراطية تترسخ، فبلاشك المساءلة والشفافية والحرية والتعددية هى قيمة جوهرية تهم الشعوب، كما أنها تعزز جهود الولايات المتحدة للتنافس ضد الصين؛ فالدول التى لديها وسائل إعلام مستقلة ومنظمات غير حكومية ومجتمعات مدنية قوية من المرجح أن تكتشف الآثار الضارة لاستثمارات الصين وتقاوم محاولاتها فى الفساد والاستقطاب والإكراه.
ومع ذلك، يجب أن تظل الولايات المتحدة مستعدة لاستثمار موارد كبيرة فى العالم النامى. يمكنها أن تسعى إلى تقاسم الأعباء المالية لهذه الاستثمارات مع حلفائها الآسيويين والأوروبيين الرئيسيين. لكنها قد لا تحتاج إلى إنفاق مبالغ ضخمة، فبخلاف التعهدات النقدية، فإن جهود بكين الأخرى فى جنوب الكرة الأرضية ليس لها تأثير ملموس. من أجل هذا، لا يوجد سبب يمنع الولايات المتحدة من تقديم كلا الأمرين (تعهدات نقدية، والاهتمام بالديمقراطية) إلى البلدان التى شعرت فى كثير من الأحيان بالتجاهل.
ترجمة وتحرير: ياسمين عبداللطيف زرد
النص الأصلي