أسماءٌ وأفعالٌ فرضتها الجائحة الوبائية الراهنة، وصِرْنا نتداولها فى الخطاب دون أن نحاول البحث فى «الماورائيات» الثقافية المتنوعة، ومنها: التباعد الاجتماعى، التباعد الجسدى، «العمل من البيت»، التعلم من بُعد والتعليم الإلكترونى، «الإدارة بدون أوراق»، المنصات الرقمية، اللقاح والعلاج، المصل والدواء، الإصابات والوفاة (المرض والموت.!)، أجهزة التنفس الاصطناعى وأسرّة العناية المركزة، العزل الذاتى، المستشفيات والصيدليات، الرقابة على الدواء (من حيث النوعية والسعر) والبحوث الدوائية، الروبوت، الذكاء الاصطناعى... وهلمّ جرّا. خليط مزدحم من الكلمات، الألفاظ والدلالات، يتأرجح بين اللغة والحياة.
ونتلفّت من حولنا فنجد هباء كثيرا مع ما يسمونه «الهلع»: خوف من غد ومن الموت الفجائى، والسلوك «العبثى» على مستوى الأفراد والحشود، وجلّ ما يأمله الحكام والمحكومون الآن هو استعادة (الماضى الجميل..!).. هذا الماضى الذى لم يمض عليه دهر أو عشرات السنين، ولكنها شهور وربما أسابيع. ماضٍ حافل رغم ذاك بالفوضى، بما فيها من ظلم معمّم ومأساة، وحروب بلا نهاية، وهجرة قسرية وتهجير، ولهاث من أجل كسرة خبز لملايين الناس، ولكنها الحياة التى يشوبها شعور (جميل) بالنهاية الوشيكة للعالم (على أيدى الليبراليين الجدد)، على وقع تدهور البيئة الطبيعية ــ الاجتماعية، والمحيط الحيوى، وطغيان الشمس على الأرض مع أمل فى «المريخ».!، وتدافُعٌ فى كل اتجاه بدون محاولة البحث عن معنى، ولكنه تسابق من أجل السبق على الضروريات والطيبات؛ فإلى أين المصير..؟
هكذا تنهار أحلام صنعتها وروّجتها ثقافة خيمت علينا وعلى آبائنا وأجدادنا مئات السنين، منذ أشرق فجر العصر الحديث (مطلع القرن السادس عشر) بوعده المراوغ من أجل «التقدم»؛ فإذا به تقدم (مادى) لقلة من العالم على حساب الكثرة الكاثرة، عن طريق الاستعمار والحرب والظلم الاجتماعى المقيم. هذا هو عالم العصر الحديث، عالم «النظام الكونى» ــ عالم الرأسمال باختصار.
وهذه التكنولوجيا المتقدمة قرينة الحداثة والتصنيع، ماذا جنينا منها فى نهاية الأمر؟ سارت دون هُدى، لا يرشدها أحد، تمضى بقوة قصورها الذاتى دون أن يُعنى أحد بالتوقف والتبيّن: أين نحن وإلى أين المسير؟
وكيف نسأل أو نتساءل وقد أوْكلنا أمرنا إلى ما لا يرحم: منطق التكاثر، المالى والسكانى والإسكانى، وقانون الربح، وتعظيم العوائد للمالك الخاص، والدول الضعيفة المستأثرة بحماية الأقوياء.
وهذا ما جنيناه فى الأخير: وباء جائح، ومرض دون وقاية متوفرة أو علاج ناجز، حيث مدارس دون تعليم، ومبانٍ استشفائية، إن وُجدت، دون إصحاح. ولا يلتقى إنسان بإنسان. هكذا حقق الوباء النبوءة، فأصبح التباعد الاجتماعى والجسدى، والحضَر الممزق المعزول، شفاءً من السقم، وهذا ما كانت هيّأت له بالفعل «التكنولوجيا المتقدمة للمعلومات والاتصالات»، حيث تجميع «البيانات الكبيرة الضخمة» لتسهل السيطرة من الحكومات على الناس، وحيث يحل الكائن الآلى (الروبوت) محل الإنسان (الحقيقى)؛ وحيث يزدهر عالم قائم على وسائط التواصل الاجتماعى دون اتصال بلحم ودم؛ وتشيع «الإعلاميات» و«الحواسيب» و«الحسّاسات» و«إدارة الأشياء من بُعد»، ويحلّ الذكاء المصنوع محل الذكاء المطبوع. يحلّ الصوت السارى عبر الأسلاك محل النطق الحيّ والمطبوع الورقى الصقيل. وتؤدّى الأعمال بالحد الأدنى من التدخل البشرى المباشر، وتدار الحكومات «إلكترونيا» دون أُناس تخفيفا للزحام وكسبا للوقت فى عالم المال وفى «عصر السرعة». هذا عالم الآلة، ولو «الآلة المفكرة»؛ الآلة التى تتعلم فتُعلّم، عالم الآلية ــ «الأوتوماتية» أو (الأوتوميشن)، «الأوتوماتون».
***
وداعا للإنسان إذن، فكيف نسترد الإنسان؟
كيف نعود سيرتنا الأولى فنستعيد التكنولوجيا من قبضة العلم الذى هو بلا إنسان، وإن شئت فقل: كيف نعيد «أنسنة» العلم والتكنولوجيا جميعا، بدءً من نقطة البداية، أى الفكرة المفكِّرة، إن صح التعبير، بدءً من «اللامادى» ذهابا إلى «المادى» بالتأكيد، ولكن دون أن نفعل الضدّ ونسير فى الطريق العكسى كما نسير على غير هدى.
من علم المادة والسرعة القصوى، عالم الفيزياء والكيمياء والميكانيكا، إلى عالم البيولوجيا الجزيئية البشرية وعالم البحث فى الدماغ «المخ»، انطلاقا من الاجتماعيات والإنسانيات والآداب والفنون، من شغاف الوجدان الرفيع، حيث الروح..!
قد أكلنا وشربنا من هذا العلم ــ حتى «العلم الكبير»، ومن هذه التكنولوجيا ــ حتى «التكنولوجيا المتقدمة للمعلومات والاتصالات»، وشبعنا وقد امتلأت البطون و«الرءوس» إلى حدود التخمة الباطنة والظاهرة، و(ضحكوا علينا..!) عشرات السنين، حين صدّعوا رءوسنا بحديث (علمى) متقن الصياغة ومعسول، عن الثورات الصناعية والتكنولوجية المتسارعة والمتلاحقة. وهكذا من الثورة الصناعية الأولى فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى الثورة الثانية فى خواتيم التاسع عشر وبواكير العشرين، إلى الثالثة أعقاب الحرب العالمية الثانية ثم أواخر السبعينات من القرن المنصرم والثمانينيات حتى التسعينيات؛ وأخيرا أكملوا (تصديع رءوسنا) بحديث متقن علميا ومنمق بلاغيا حول «الثورة الصناعية الرابعة». هذه الثورة التى قالوا عنها وقلنا إن جوهرها «الأتمتة الرقمية»، ومجالها الفسيح تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وأدواتها الأجهزة الحساسة والروبوت، وجهاز دورتها الدموية نظام الذكاء الاصطناعى، ومستقبلها فى «إنترنت الأشياء»..!
هكذا قالوا وقلنا، ونحن من بينهم؛ وإذا بالجائحة الوبائية تكشف المستور فيتكشف ضعف المنظومات المبنية على مهل خلال السنين لصروح العلم وبنايات التكنولوجيا وعمائر العمران، فنعرف أنه لا أحد من العمالقة، عمالقة «الحرب والسلام» و«التنمية البشرية ومكافحة الفقر»..! كان بمستطاعه أن يكتشف حقيقة المرض ووسائل الوقاية والعلاج، وإذا بالفيروس غير المستكشف يفتك بأرواح الشعوب، وإليه ينظرون وينتظرون.
هل بالغنا فى القول، وهل جنحنا إلى بلاغة القول دون فصل الخطاب..؟ لا ليس ذاك. فقد سال من الأقلام ــ ومن قلمى ــ حبر غزير، حول ما ينتظرنا وما يجب أن نتهيأ له فى مقبل الأيام من عالم العلم والتكنولوجيا، والثورة الصناعية القادمة، حتى خامسة منتظرة، ولو من خلال بناء «سلاسل الإمداد والعرض والقيمة» إقليمية وعربية قومية، وإفريقية، حتى لا نقع فريسة «التطور غير المتكافئ»..! وما كنا ندرى أننا كنا مصابين بما يشبه العماء الفكرى، أو لعله ضرب من ضروب ما يقرب من «غيبوبة فكرية»، أحادية البُعد.
إنه بدلا من الاستغراق فى مادة البيانات والمعلومات و«اقتصاد المعرفة».!، والذكاء «المؤتمت» وإدارة الناس والأشياء من بُعد، ينبغى استشراف عالم جديد، وعصر جديد..! عالم يتمركز حول الإنسان وليس حول «الأوتوماتون»؛ عالم وعصر كفيلان بالتوجه نحو غَناء الروح وإصحاح الجسد، والتفتح الحيوى، وتعددية الأبعاد..! نحو العناية بعلم الأمراض، واستعادة زخم أبحاث «الجينوم البشرى» ــ التى توقفت طوال العشرين سنة الماضيةــ وعلوم الجينات والوراثة والزراعة، العلوم «الأحيائية». ذلك للحدّ من طغيان «الهندسات» وبناء السيارات ومعدات النقل و«المركبات ذات المحركات» والمبانى الخرسانية العالية. ولتحل اللقاحات والأدوية المستخرجة من النباتات ومن أبحاث البيولوجيا الجزيئية محل الكيماويات وصناعة الأدوية الحالية.
وفى ذلك فليتنافس المتنافسون..
***
ولمنْ يستريب فيما نقول هنا، أنقل إليه فقرات من دراسة كنا كتبناها منذ عشرين سنة بالتمام، عنوانها: ((العولمة المقيّدة للتكنولوجيا: مثال صناعة الأدوية بالتطبيق على حالة جمهورية مصر العربية)) وتمّ تقديم ملخصها ضمن «تقرير التنمية البشرية» المصرى عام 2000، و نشرت كاملة بعد ذك فى كتابنا ((الاقتصاد السياسى للعولمة والتكنولوجيا، نحو رؤية جديدة، الدار العالمية للكتاب، بيروت، 2004، ص ص 87ــ135)). فى هذه الدراسة كنا نظن أن المسار العالمى للعلم والتكنولوجيا فى صناعة الدواء يمكن أن يتجه اتجاها جديدا، غير الذى حدث بالفعل والذى فرضه للأسف منطق الربح لشركات الدواء عابرة الجنسيات وحكوماتها (حكومات الحرب والسلام!)، حيث فاجأتْهم وفاجأتنا «فيروسات كورونا«، وبقينا أمامها عاجزين، عرايا أو أشباه عرايا، وكأننا لم ننفق موارد الكون على ذلك العلم وتلك التكنولوجيا.!
فى الدراسة المذكورة قلنا (بحسن نية شديد..!) ما يلى (ص ص 92ــ93 من المرجع المذكور):
(( لعل أكثر ما يثير الاهتمام فى مجال تكنولوجيا علوم الحياة فى السنوات القليلة الأخيرة هى التكنولوجيا المرتبطة بالبيولوجيا الجزيئية وخاصة جزئ «الدنا DNA«. وكان مشروع الطاقم الوراثى البشرى «الجينوم البشرى»، وما يزال، أهم معالم الاهتمام العالمى، خاصة الأمريكى، بالتكنولوجيا الحيوية، سعيا إلى فك الشفرة الوراثية الكائنة فى مائة ألف جين داخل الخيط أو الحبل المحتوى على نحو ثلاثة بلايين من «الفصوص» البيولوجية فى «الدنا». وقد أعلن فى أمريكا فى العام 2000 عن النجاح فى الفك المبدئى للخريطة الوراثية للإنسان، على أن يتم العمل التفصيلى خلال السنوات التالية.
وتتفرع عن ثورة البيولوجيا الجزيئية والطاقم الوراثى ثلاثة قضايا رئيسية سوف تشكل محور العمل التكنولوجى فى العقد القادم: الهندسة التفصيلية للجينوم البشرى ورسم خريطته الوراثية الكاملة؛ العلاج بالجينات؛ وأخيرا الاستنساخ. ومن هذه المحاور تتحدد معالم الثورة العلاجية والدوائية القادمة، بواسطة:
1ــ التقدم الجذرى فى «علم الأمراض« انطلاقا من «هندسة» الجينوم ورسم خريطته الكاملة.
2ــ السيطرة على حركة الخلايا الحية بعلاجات مستحدثة تختلف فى الجوهر عن العقاقير السائدة «الكيماويات». 3ــ استخدام تقنيات الاستنساخ على مستوى الخلية والعضو المعين فى الجسم، من أجل تحضير «أجسام مضادة« تفيد فى بعض الحالات المرضية.
ومن المتفق عليه أن ثورة الأحياء الدقيقة تشكل أهم مصادر التطور فى صناعة الدواء فى الأعوام المقبلة، باعتبارها مصدر إلهام لثورة موازية فى الطب الوقائى والعلاجى معا، ومن ثم ثورة «صيدلانية« كاملة... ولا يمكن تنفيذ هذه الثورة بدون قبول تحدى تكنولوجيا المعلومات المتقدمة والقائمة على «المعلوماتية» أى معالجة المعلومات باستخدام الحاسبات والشبكات. ويتطلب ذلك موارد بشرية ومادية هائلة، تكرسها سياسات علمية وتكنولوجية موجهة نحو أولوية علوم الحياة متضافرة مع تكنولوجيا المعلومات. وقد توفرت هذه المتطلبات الضرورية بدرجة كافية لدى الولايات المتحدة الأمريكية واحتلت موقع الصدارة فى عالم «التكنولوجيا العالية» على الصعيد العالمى ــ العولمى. وكما يقول أحد الخبراء: «الولايات المتحدة هى القائد فى مجال «البيوتكنولوجى» بلا منازع، وسيسهم مشروع الجينوم فى تأكيد احتفاظها بقيادة العالم.... ولكن السؤال الجوهرى هو: إلى أى مدى يمكن أن تستغل هذه القيادة؟»..
وبعد هذه الثورة التكنولوجية المركبة: علوم الحياة ــ المعلوماتية، فإن تقدم البحث والتطوير سوف يمس القطاع الدوائى فى جميع مراحل صناعة الأدوية ومن مختلف جوانبها)).
انتهى الاقتباس. ونظن أن أيّا من تلك الوعود «الأحيائية» فى مجال العقاقير لم يتحقق، وخاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية، لا لشىء إلاّ لأنّ أولويات «الرأسمال» الربحية الخاصة فى مجال الثورة التكنولوجية، لا تبرر ذلك الجهد «الإنسانى» الكبير..!