أقوال وكتابات كثيرة، وظواهر ملفقة، توالت منذ نشرت «الشروق» يوم الاثنين الماضى حوارنا مع القراء حول «البرادعى»، فما الذى يمكن أن تضيفه إلى حوارنا الممتد؟.
أهم «الأقوال» بالطبع هو حديث الدكتور البرادعى نفسه للاستاذ جميل مطر، الذى نشرت حلقته الأولى أمس، واليوم تنشر الحلقة الثانية، ليختتم غدا بالحلقة الثالثة، أما الكتابات المهمة فهى أكثر من أن تحصى سواء تلك التى جاءت بأقلام الكتاب والمعلقين المحترفين، أو التى سطرها القراء فى رسائل إلى الصحف، أو على المواقع الإلكترونية.
أما الظاهرة اللافتة للأنظار أكثر من غيرها، فهى توقف الصحف القومية كلها وبصورة مفاجئة عن الهجوم على الدكتور البرادعى «برصانة» أو «بسخافة»، بل إن بعضها تراجع صراحة عن اندفاعه الأول، فيما يشبه الاعتذار عن المنهج والمعلومات المغلوطة التى عولج بها احتمال ترشيح الرجل نفسه فى انتخابات الرئاسة المقبلة».
فى المناقشات الجانبية مع الزملاء الصحفيين، والأصدقاء من القراء كانت الحيرة بادية على الجميع فى محاولة تفسير هذا الصمت المفاجئ للصحف القومية عن القضية، وذلك على الرغم من أن البرادعى كان قد قطع خطوة أو خطوتين كبيرتين إلى الأمام، وذلك حين صرح لــ«المصرى اليوم» ضمن أشياء أخرى بأنه سوف يسعى مع الشعب المصرى لوضع دستور جديد.
وهو ما يعنى أنه لن يكتفى بالكلام والمطالبة، وإنما سوف يتجه إلى العمل فور عودته إلى أرض الوطن، وكانت الخطوة الثانية هى حديثه لـ«الشروق» الذى نشرت مقتطفات أولية منه يوم الخميس الماضى، واتضح منها للجميع أنه لن يلعب وفق الشروط القائمة، وأنه سيعمل من أجل تغيير قواعد اللعبة، كما فهم ضمنا أن يتصور أن العامين المتبقيين حتى موعد انتخابات الرئاسة المقبلة كافيان لإنجاز المهمة، وهو ما ورد صراحة فى نص الحلقة الأولى من الحديث المنشورة أمس الأحد.
نعود إلى حيرة الزملاء والقراء فى تفسير السكتة التى أصابت الصحف القومية حول الموضوع، فالبعض ــ وأنا منهم ــ ارتأى أن التفسير الأرجح هو الاعتقاد بأن التجاهل هو الاستراتيجية الأفضل فى هذه المرحلة.
وذلك حتى لا تضخم أهمية دور البرادعى، ولا تفرض انتخابات الرئاسة نفسها منذ الآن على كوادر الحزب الحاكم، ومؤسسات النظام، فى الوقت الذى لم يحسم هذا النظام أمره بعد على الأقل علنا ورسميا، واستدعى أصحاب هذا الرأى التصريحات المتوالية لأقطاب الحزب الحاكم، والتى تدور كلها حول هذا المعنى، أى أن الحزب لن يسمح لأحد أو لجهة أن تستدرجه إلى الحديث حول انتخابات الرئاسة، فى حين لا يزال متبقيا على موعدها عامان طويلان، يشهد أولهما انتخابات مجلس الشعب.
أما التفسير الثانى فهو يرجح أن النظام يأخذ البرادعى مأخذ الجد باعتبار أن دخوله إلى الساحة مؤيدا بوضوح وقوة من جانب كل المطالبين بالتغيير يشكل متغيرا جديدا من خارج السياق المألوف، وربما يؤدى بالفعل إلى تغيير جذرى فى قواعد اللعبة.
ومن ثم فالأفضل التريث، واستقصاء جميع المعلومات والاحتمالات، لوضع استراتيجية مختلفة عن استراتيجيات التعامل مع التحديات السابقة كالدكتور سعد الدين إبراهيم أو الدكتور أيمن نور، وحتى تتبلور هذه الاستراتيجية إما نحو معركة تكسير عظام جميع المطالبين بالتغيير، وإما بسد كل الطرق أمام البرادعى، وإجباره على الانسحاب والصمت، وإما بالتفاهم مع هذه القوى على قواعد جديدة للمشاركة السياسية.. أقول حتى تتبلور هذه الاستراتيجية، فالصمت أولى، والانتظار هو التكتيك الأفضل.
هنا لابد من وقفة مهنية، أى صحيفة بحتة مع هذه الظاهرة، فقد دأبت الصحف القومية. على اتهام الصحف المستقلة بأنها هى التى تخترع مرشحين للرئاسة، وبأنها تنفخ فى الموضوع إما لأجندات سياسية خاصة بها، وإما لزيادة توزيعها.
ومع أنه لا عيب فى هذه أو تلك، إلا أن السؤال الأهم هو: هل المعايير الصحفية المهنية المجردة تفرض على الصحف قومية أو مستقلة نشر بيانات، وتصريحات الدكتور البرادعى حول خططه للعمل السياسى فى مصر أم أن هذه المعايير المهنية المجردة تقضى بعدم نشرها؟! فإذا كانت الإجابة هى أن هذه المواد تعد مادة صحفية من الطراز الأول، وأن حق القارئ المصرى فى الاطلاع عليها لا يمارى فيه، ففيما الخلاف إذن، ولماذا الصمت من جانب «القومية» ومَنْ من الطرفين هنا أوفى للقارئ وللمهنة؟.
وإذا كانت الإجابة هى أن مثل هذه المادة لا تصلح للنشر لأسباب مهنية مجردة ــ وليس لحسابات سياسية حكومية ــ فليتكرموا علينا وعلى القراء، ويشرحوا لنا هذه الأسباب، علنا لنتعلم ما فات علينا فى دروس الصحافة، وعلهم يكسبون فينا وفى القراء الأجر والثواب.
الآن نعود إلى السياق الأصلى لحوارنا مع القراء، وقد كان هذا السياق هو من أين يبدأ البرادعى أو غيره من الذين يقدمون أنفسهم «روافع» لمطلب التغيير السياسى فى مصر، وبعبارة أخرى كان السؤال هو ما هى الخطة، بعد أن عرفنا ما هى المطالب، وما هى المبادئ؟ لأن المطالب والمبادئ متفق عليها بين دعاة التغيير، إن لم تكن موضع إجماع لا شك فيه، ولأن الذى قد يكون ــ بالتالى ــ موضع خلاف هو خطة أو خطط العمل، وأيضا لأن النجاح والفشل يتوقفان على الخطط، وليس على سلامة أو صحة المبدأ والمطلب، فكثير من المطالب سليمة ومشروعة، بل وضرورية، ولكنها لا تتحقق، أو لا يستجاب لها لعدم وجود خطة العمل، أو لعدم كفاءة هذه الخطة.
من الواضح ــ فى حالة الدكتور البرادعى ــ أنه لا يدعو لثورة، أو لخروج على الشرعية، ولكن يدعو لتوافق وطنى يقر بعدم صلاحية الأوضاع الدستورية والسياسية الحالية لمستقبل البلاد، وأنه يقترب من رؤية الأستاذ هيكل فى الحاجة إلى هيئة تأسيسية تضع دستورا جديدا يصوغ عقدا اجتماعيا متفقا عليه بين جميع مكونات المجتمع والدولة المصريين.
وقد وجه الاستاذ هيكل والدكتور البرادعى الدعوة مباشرة إلى الرئيس مبارك لاتخاذ هذه الخطوة، وكان الرئيس من جانبه قد رد على دعوة هيكل بطريقة غير مباشرة حين قال لأعضاء الحزب الوطنى لا تستمعوا لمن يطالبون بتعديل الدستور فهم يطلبون ذلك لأغراض خاصة، ولم يفصح الرئيس عن طبيعة هذه الأغراض.
وبما أنه لا يوجد لدينا دليل على أن موقف الرئيس قد تغير، فإن المنطقى هو أن الرد الرئاسى على دعوة هيكل سيكون هو نفسه الرد على دعوة الدكتور البرادعى، ومن ثم يعود السؤل: ما هى خطة العمل السلمية الديمقراطية لاقناع الرئيس بالتجاوب؟
لقد علمونا فى دروس العلوم السياسية أنه لابد من تغيير علاقات القوى فى المجتمع لكى تتغير مواقف السلطة الحاكمة، فكيف يمكن إذن تغيير علاقات القوى فى المجتمع المصرى حاليا؟.
كان اجتهادنا المتواضع هو دعوة الدكتور البرادعى وغيره ممن يرون فى أنفسهم «روافع» للتغيير إلى اغتنام فرصة انتخابات مجلس الشعب المقبلة لتغيير علاقات القوى تلك، سواء بالدخول مباشرة بأشخاصهم إلى هذه الانتخابات، أو بإلهام عدد كبير من المستقلين ذوى المكانة والاستقامة إلى دخولها، لتكون هذه بداية العمل نحو التغيير.
ولكن قراء وأصدقاء قدموا اقتراحات بديلة، فالأستاذ إبراهيم عابدين يقترح أن تتضامن جميع الحركات السياسية الجديدة مثل «مصريون من أجل التغيير، ومصريون من أجل انتخابات حرة، وحركة كفاية، ومنظمات حقوق الإنسان، مع الحركة الشعبية البازغة والمسماة لجان التضامن مع البرادعى» فى صياغة وثيقة للمطالبة بالتغيير الديمقراطى، ثم تطرح هذه الوثيقة للتوقيع عليها من المواطنين على غرار حملة التوكيلات الشعبية للوفد المصرى برئاسة سعد زغلول فى خضم ثورة 1919، على أن ترفع هذه الوثيقة الموقعة من الملايين إلى رئيس الجمهورية، وإلى مجلس الشعب، وهو يرى أن ذلك أجدى وأسلم من دعوة لجان البرادعى الحالية لتنظيم مسيرات مليونية لاستقباله فى مطار القاهرة، ثم إنها تفوت على الحكومة فرصة كسب الجولة من هذه اللجان بإحباط المسيرات بوسائلها المعتادة، بما يظهر أن الدكتور البرادعى لا يحظى بالتأييد الجماهيرى الكافى.
قارئ سمى نفسه «عقلانى» وقارئ ثان هو الاستاذ محمد مصطفى مجاهد يقترحان بداية مختلفة وهى تنظيم حملة لتعبئة المواطنين لاستخراج البطاقة الانتخابية، وهو ما يعد مؤشرا قويا على عودة الاهتمام بالمشاركة، لكنه اهتمام عائد فى جوهره إلى دخول أمثال البرادعى للساحة السياسية الأمر الذى سيربك حسابات الحكومة، ويشعرها بأن علاقات القوى الداخلية فى طريقها إلى التغير، ومن ثم تضطر للاستجابة لدعوات التغيير.. وهذه العبارة الأخيرة استطراد من جانب كاتب هذه السطور.
أما الدكتور رفعت غنيم فيعتقد أن الاعتصام السلمى هو الحل، ويقترح الدكتور جلال الدين حبيب على الدكتور البرادعى أن يركز أولا على التواصل المنظم مع المواطنين، وما لم يفعل ذلك فإنه سيظل مجرد صاحب رأى مثل الكثيرين، وله عندئذ أن يكتب ما يشاء، ويطلب ما يشاء.
من المفهوم أن هذه السطور كتبت قبل نشر حديث البرادعى لـ«الشروق» مكتملا.. ومن المفهوم أيضا أننا كتاب وقراء لا نفكر للدكتور البرادعى أو غيره، ولكننا نفكر لنا جميعا..
ونأمل أن يكون فى النظام من يفكرون معنا فى البحث عن بداية جديدة عملية وسلمية لكى لا تفوت مصر أهم استحقاقين سياسيين فى العامين المقبلين.. أى الانتخابات البرلمانية، وانتخابات الرئاسة.. دون أن تكون قد حجزت مقعدها المناسب فى قطار المستقبل.