نصيحة سمعتها مرارا من الكبار فى بيت عائلتى، وسمعتها مرارا من أستاذ تعامل معى وزملاء آخرين كصديق. كان يدرس لنا الفلسفة السياسية فى آخر سنوات الدراسة الجامعية. كان يعتقد أن المسافة الزمنية التى تفصل بين الانتهاء من تشكيل الفكرة والنطق بها يجب أن تكون كافية لتبريد درجة الانفعال فى القلب وزيادة الأكسجين فى الصدر واكتمال الحكمة فى العقل. «أنت لا تخدم الفكرة ولا توفيها حقها إذا تركتها تخرج من فمك وأنت منفعل أو بنفس متقطع أو بنقص فى الاقتناع».
•••
عادت النصيحة ترن فى أذنى وأنا أقرأ تقريرا صحفيا عن حملة تدعو الناس فى الغرب إلى إبطاء حركتهم وعدم التعجل فى الرد على أفعال الغير. تدعو الحملة أيضا للتخلى عن استهلاك الوجبات السريعة والعودة إلى أسلوب وتقاليد الوجبات البطيئة، وبخاصة بعد أن تأكد أن تناول الطعام بسرعة، والإقبال المتزايد على استهلاك الوجبات جاهزة الطبخ، يتسببان فى أمراض كثيرة ليس أقلها تهديدا للحياة السمنة المفرطة.
وفى موقع آخر وقعت على تقرير عن الدور الذى يلعبه «التغريد» tweeting فى تغيير مفاهيم وممارسات مهنة الصحافة. عهدنا بالصحفيين كمخبرين أو معلقين ومحللين، أنهم يختلطون بالناس حيث يعملون ويتسلون ويتنقلون، هذا هو عهدنا بهم فى الماضى. تغيرت أمور وتبدلت عهود وكان نصيب مهنة الصحافة لا يقل عن أنصبة مهن أخرى. خرج منذ أيام أحد كبار ملاك الصحف الجدد فى أمريكا بزعم أن نوع الصحفيين الذين يختلطون بالناس فى كل مرافق الحياة يكاد ينقرض بعد أن كادت تنتفى الحاجة إليه. قال المالك الجديد، «نحن الآن لسنا فى حاجة لمخبرين يجوبون الطرقات ويركبون الباصات ويختلطون بأهل الضواحى الفقيرة ليكتبوا لنا عما يرون ويسمعون. هناك، كما فى كل مكان، يوجد أفراد يرون ويسمعون ثم يغردون ولا يكلفوننا شيئا. هؤلاء وفروا علينا مرتبات صحفيين ونفقات تدريبهم وتنقلاتهم وأعباء رعايتهم الاجتماعية وأجرة مساحات يشغلونها وكلفة استهلاك مفروشات وأجهزة واستخدام اتصالات عندما يتواجدون فى مبنى الصحيفة.
«المغردون حلوا محل معظم الصحفيين منذ أن زاد الاعتماد عليهم وتضاءل الاعتماد على أهل المهنة».
•••
المغردون أسرع فى إيصال الخبر، لا شك فى هذا. ولا شك أيضا فى أن هذه السرعة نفسها تحمل فى طياتها الأضرار نفسها التى تحملها سرعة الرد التى سبق الكبار من الأهل وأساتذة الفلسفة فحذرونا منها. مؤشرات عديدة تؤكد هذا التخوف وظواهر مثيرة للقلق تحيط بنا وتتغلغل فينا لم تكن موجودة بهذا الانتشار والخطورة قبل سنوات قليلة. نلاحظ مثلا كيف أن كثيرين من الذين يغردون ويمارسون الفيسبوكية، يغامرون بالرأى قبل أن يقرأوا تفاصيل القضية وظروفها. فى زمن غير قديم كانت قواعد الكتابة تقضى بأن ينتهى البحث أو المقال بالرأى، بينما تقضى ظروف وطبيعة التغريد وغيره من أساليب الاتصال الالكترونية بأن يبدأ المستخدم بالرأى. وكأنه يخشى أن يسبقه غيره فى إبداء الرأى. نقرأ لكثيرين يبدون الرأى قبل أن يسألوا. أكثرهم لا يسأل خشية أن يفوته قطار «الرأى السريع».
محصلة الرأى السريع، كما تحصل عليها ودرسها متخصصون، هى أفكار غير ناضجة، وهى أحيانا خفة دم تتسم بالاندفاع إلى حد التجريح والتشهير. السرعة غالبا ما أدت إلى تشويه سمعة المغرد، كاتبا كان أم رجل دولة، وغالبا ما جاءت على حساب الحقيقة، غير مستوفية الشروط والتحقق، وكثيرا ما تأتى على حساب أمانة النقل فالانتشار الأوسع والأسرع يصبح الهدف الأوحد للمغرد لا يعلو عليه هدف آخر ويسبق أى اعتبار آخر. المحصلة أيضا جو إعلامى الأعصاب فيه دائما مشدودة وأطرافها ملتهبة.
•••
صديق مهتم بدراسة برامج الكلام التليفزيونية أسر لى بأنه قارن بين الحوارات التى كانت تجرى قبل سنوات عديدة والحوارات التى تجرى الآن فى عصر التويتر والفيسبوك، أى فى عصر السرعة. اكتشف أن عددا متزايدا من المحاورين صار يتعامل مع أمثاله من المتحاورين على أن كلا منهم، جاهل أو متعصب أو أبله أو مدعٍ أو عميل أو خائن أو شرير أو فاسد.
اكتشف أيضا أن الحوارات فى أغلبها تبدأ تربصا فصراخا يتحول إلى عراك تنقله الكابلات والأثير إلى ملايين المشاهدين فى بيوتهم وبين عائلاتهم. أصبح التوتر مرضا شائعا وأصبحت قواعد النقاش الإلكترونى زاعق الصوت ومتدنى الألفاظ قواعد ثابتة فى النقاش العائلى. أصبح الرأى يأتى قبل السؤال والخبر، والسرعة معيار النجاح والفصاحة وليس الحجة والمنطق.
•••
أخيرا فهمت لماذا راح بعضنا يلجأ أكثر من أى وقت مضى إلى كلاسيكيات السينما المصرية والعالمية، حيث البطء الناعم والرتابة غير المملة، والعواطف غير المصطنعة، والبساطة الأنيقة، وحيث الخير منتصر والتفاؤل سمة كل النهايات.
•••
فهمت أيضا، وأدركت، أهمية الاقتراح الداعى لوضع «إتيكيت أون لاين» ينظم العلاقات بين المتعاملين فى الفضاء الإلكترونى، ويرتفع بمستوى الكلمات، ويشجع على العودة إلى التفكير مرات قبل إبداء الرأى.