فلنبدأ هذا المقال بسؤال افتتاحى مهم: ما هى العوامل الرئيسية المفسرة لتدفق الاستثمار من الدول والشركات الأجنبية إلى البلاد المضيفة لهذا الاستثمار، مثل جمهورية مصر العربية؟ رغم ما يبدو من بساطة السؤال إلا أن الإجابة عليه عسيرة نوعا ما. وفيما يلى نشير إلى بعض من تلك العوامل فى عجالة:
أولا: انطباع صورة معينة عن البلد من وجهة نظر الحكومات والمستثمرين الأجانب. ومن هذه الزاوية قد تكون الصورة الانطباعية التى يكونها الآخرون أهم من الواقع نفسه أحيانا. وتلعب عدة عوامل فرعية أدوارا أساسية فى ذلك، مثل مدى الاستقرار الأمنى والسياسى، وكفاءة وفاعلية جهاز الدولة، ووضع الحريات الأساسية للمواطنين والأجانب.
ثانيا: مدى وضوح واستقرار وفاعلية الإطار التشريعى اللازم لجذب التدفقات من الخارج وتوجيهها إلى القطاعات ذات الأولوية، ومن ثم زيادة المنافع وتقليل الخسائر المحتملة؛ وكذلك آلية إنفاذ القانون والتقاضى، ودرجة الفساد الإدارى والاقتصادى.
ثالثا: مدى توفر عوامل الإنتاج وخاصة من حيث قوة العمل الماهر، والوفرة النسبية للموارد الطبيعية من المواد الأولية ومصادر الطاقة، مع ملاحظة أن توفر بعضها قد يشجع على إتباع ما يسمى بمسلك «التماس الريع»، أى الاكتفاء بما تدره من عائد مالى لفترات زمنية معينة دون التطلع إلى بناء قواعد إنتاجية طويلة الأمد.
رابعا: «القدرة على استيعاب رأس المال» فى المشاريع الإنتاجية، وخاصة من حيث مرافق البنية الأساسية، وكفاءة الجهاز المصرفى وأسواق المال.
خامسا: مدى وجود قطاع محلى للأعمال قادر على استقطاب رأس المال الأجنبى والمشاركة معه فى القطاعات ذات الأولوية.
سادسا: مدى توفر رؤية استراتيجية مفصلة ذات أولويات محددة مع القدرة على التنفيذ فى مدى زمنى معين. سابعا: الاعتبار الاستراتيجى المتعلق بموقع الدولة نفسها من النظامين الإقليمى والدولى، وكلما كانت الدولة قادرة على بناء دور فعال وتأسيس نفوذ معين فى إقليمها والعالم، وعلى تأمين هذا الدور والنفوذ، كلما ارتفعت قابليتها لاجتذاب رأس المال الأجنبى. كما أنه كلما ارتفعت درجة التهديد التى تمثلها الدولة لتوازنات القوى السائدة كلما زادت درجة تعرضها للخطر.
***
هذا فيما يتعلق بالاستثمار الأجنبى عموما، أما فيما يتعلق بصيحة العصر الراهن، أى الاستثمار فى المجال الرقمى ــ مجال المعلومات والاتصالات ــ داخل البلدان المضيفة أو المرشحة لاستضافة ذلك الاستثمار، مثل مصر، فإن الأمر يتطلب ضرورة إدراك الخلفيات الكامنة وراء اتخاذ الشركات العملاقة لقرارها الاستراتيجى بالاستثمار خارج الحدود، فى بلد معين، وذلك من النواحى التالية:
أولا: توفر البنية الرقمية الفعالة داخل البلد المضيف للاستثمار، وذلك بالمعنى الشامل والعميق للبنية الرقمية، وليس بالمعنى الضيق لدى العديد من حكومات البلاد النامية، بما فيها مصر أيضا، والذى يتمثل غالبا فى مجرد توفير النطاق العريض والسرعة العالية لنقل البيانات عبر الإنترنت على امتداد المساحة الجغرافية للبلاد. وتشمل البنية الرقمية الفعالة بالخصوص، توافر الكادر البشرى القادر على التعامل مع الآليات الرقمية، من حيث بناء نظم المعلومات، وقواعد البيانات، وأعمال التخزين والسحب والاسترجاع، والمعالجة المنطقية والرياضية المعقدة، وتحاليل البيانات الكبيرة big data analytics. كما تشمل البنية المطلوبة أيضا إدماج الأنشطة «الإنترنتية» فى الاقتصاد القومى ككل، من خلال إدخال المشروعات الصغرى والصغيرة فى القطاع المنظم العريض للاقتصاد الوطنى، بما فيها الأعمال الريادية ذات الطابع الفردى والنسوى والعائلى.
ثانيا: توفر الأنشطة المحلية للبحث والتطوير R&D والابتكارات التى تمثل بيئة داعمة لأعمال الشركات العالمية الكبرى. وعموما ينبغى توفر «قطاع أعمال» محلى قادر على تحقيق علاقات الربط مع سائر مكونات الاقتصاد الوطنى.
وليكن معلوما فى هذا المجال أن الشركات الكبرى إنما تُقبِل على العمل فى البلدان ذات مستويات الدخل المرتفعة نسبيا، حتى تضمن مستوى عاليا من المبيعات، بناء على توافر طلب فعلى، أى «رغبة مدعومة بالقدرة الشرائية»، لفئات عريضة من السكان. ويشمل هذا الطلب الفعلى على سبيل المثال: وسائل الترفيه، ومعدات الاستهلاك المنزلى والعائلى، وكذا الطلب على استخدام وسائط التعامل المباشر مع موردى السلع ومزودى الخدمات من سلاسل متاجر الجملة والتجزئة ذات الامتداد الكوكبى (مثل «على بابا» الصينية، و«أمازون» الأمريكية).
كما أن الشركات الدولية الكبرى تفضل التعامل مع شركاء محليين قادرين على الدخول فى مجالات عديدة من خلال تفعيل الاختراعات بما فيها تلك التى انتهت مدة حمايتها قانونا، أى التى دخلت حيز «المِلْك العام»، بالإضافة إلى المشاركة فى أعمال التصميم الهندسى بواسطة الحاسوب، وفى تقنيات متطورة من قبيل «الطباعة ثلاثية الأبعاد» وما يسمى بـ«إنترنت الأشياء» القادر على الربط من بعيد أو قريب بين المستخدم ومختلف الأجهزة والمعدات فى المنازل والأماكن العامة ووحدات الإنتاج.
غير أنه من المهم أن نشير أيضا إلى أن التعامل بين الأطراف المحلية والشركاء الأجانب له مخاطره المحتملة على الاقتصاد الوطنى، الذى قد يفقد تماسكه الداخلى لحساب الأطراف الخارجية القوية والتى تتحكم فى عمليات الإنتاج الموزعة عبر أركان المعمورة، وهذا ما يسمى بسلاسل القيمة العالمية.
وبقدر ما أن مؤسسات الأعمال المحلية المشاركة فى سلاسل القيمة العالمية للشركات عابرة الجنسيات، يمكنها الاستفادة من الفرص التى يتيحها الوجود الحقيقى أو الافتراضى للشركات العملاقة، فإنها ستواجه تحديات قوية متعددة. ولذلك ينبغى الأخذ فى الاعتبار الأثر الإيجابى والسلبى للمشاركة ضمن السلاسل العالمية، أو الفرص والتحديات. وتنبع الفرص من طبيعة تجزئة سلاسل الإنتاج الدولية للسلعة أو الخدمة الواحدة فى العالم المعاصر، بحيث يمكن الاستفادة من التكنولوجيات المنقولة من أجل بناء «سلسلة محلية للقيمة» بحيث تقوم الشركات المحلية بالإنتاج وتصدر منتجاتها ذات المستويات المتوسطة إلى الأسواق الخارجية الراغبة فى استقبال هذه المستويات وفق المعدلات السعرية السائدة فى الأسواق الدولية.
ومن الممكن على هذا النحو أن تعزز مكاسب التصدير من القدرة المالية والتكنولوجية للمنشآت المحلية، مما قد يمكن ــ فى حال الربط مع سائر مكونات وقطاعات الاقتصاد الوطنى ــ من تقوية القدرات الإنتاجية وتسريع عملية التنمية المتمحورة نسبيا حول الذات، سواء على الصعيد المحلى أو داخل المحيط الإقليمى الواسع، مثل الوطن العربى والقارة الإفريقية فى الحالة المصرية.
***
أما التحديات فتنشأ عن تحول البلد المعنى، الصغير نسبيا فى الغالب، إلى «ملحق» للمنتجين الكبار فى الخارج، وهذه حالة بلدان ومناطق مثل سنغافورة وهونج كونج و«ماكاو الصينية»، أو تنشأ عن تكون جيوب داخل البلاد، ملحقة بمراكز الشركات ومقراتها الرئيسية، وهذه هى الحالة فى أغلب الدول المضيفة للاستثمارات الأجنبية والتى تتوسع فى الأعمال المكملة لسلاسل القيمة الخارجية من خلال «تعاقدات الباطن» فى مجال السلع، وأنشطة «التعهيد» ــ أى «التشغيل لحساب الغير» فى مجال الخدمات.
وفى حالة البلاد النامية ــ مثل مصر ــ التى جعلتها الظروف فى موقع صعب تاريخيا، حيث لم تتمكن، لزمن طويل نسبيا، لسبب أو لآخر، من بناء قواعد إنتاجية قوية مترابطة فى المجالين التصنيعى والمعرفى، فإنه من المحتمل إلى حد كبير أن تؤدى أنشطة الشركات الدولية داخل البلاد، إلى إعادة بناء نموذج «الاقتصاد المزدوج» الذى كان سائدا فى عصور الاستعمار القديم، حيث يوجد قطاعان: قطاع أكثر تطورا ومرتبط مباشرة بسلسلة القيمة الأجنبية، وقطاع أقل تطورا موجه لسد الاحتياجات المحلية.
ويمكن للبلاد النامية ــ مثل مصر ــ أن تتحوط لذلك عن طريق الاستفادة من التكنولوجيات الرقمية لتنمية القطاعات والأنشطة التقليدية فى الريف والحضر؛ وبعبارة أخرى: مواجهة الازدواجية «الضارة» المحتمل نشوؤها من جراء الاستثمار الأجنبى، بازدواجية «حميدة» تخلق علاقات الترابط الشبكى المتين عبر الزمن من خلال «التنمية الشاملة والمشتمِلة» Comprehensive and Inclusive Development.
ولمزيد من توضيح هذه الحقيقة، نشير إلى أنه ليس من الضرورى أن يتم تركيز الاستثمار الأجنبى على أنشطة القطاع الرقمى فقط ــ الأمر الذى قد يصعب تطبيقه ــ وإنما قد يفضل استخدام المتاح من الآليات الرقمية المطورة فى الخارج، من خلال صيغة «المشروعات المشتركة» Joint ventures مع إسناد جانبى من شركات محلية مخصصة لدرء المخاطر Risk capital، مع العمل على استيعاب التكنولوجيا الرقمية محليا من خلال الشركات الناشئة Startــups ووحدات البحث والتطوير وأعمال الابتكارات المحلية والتصميمات الهندسية. ولا بأس من مسايرة الاتجاه العام فى عديد الدول النامية المضيفة للاستثمارات عن طريق إقرار حزمة من الحوافز التفاضلية الإيجابية والسلبية، التى يكون من شأنها التوسع فى الاستثمار الأجنبى فى المجالات المرغوبة، وفق أولويات تنموية محددة بدقة، فى إطار الرقمى وبما يخدم عملية التنمية، لفترات انتقالية معينة، وذلك حتى يتم «استيعاب التكنولوجيا» محليا، ومن ثم يتم الانتقال فيما بعد إلى التوسع فى الاستثمار المحلى فى القطاعات غير الرقمية.
وإنْ شئنا أن نعبر عن خلاصة الأمر باللغة البلاغية، فلنا أن نقول: إن من غير المتوقع أن تنهمر المزايا على شكل «العطايا» بمجرد دخول الاستثمارات الأجنبية إلى بلدٍ ما، إذْ لن تتدفق الاستثمارات على طريقة «أنهار العسل والحليب» المجانية، ولكن من خلال الرؤية التنموية الفعالة والحساب الدقيق.