ــ صباح الخير
ــ أهو انت اللى خاين وعميل
الحوار أعلاه قد يبدو شاذا. إلا أنك لو فكرت قليلا ستجد أنه يمثل نموذجا للفصام وغياب الفهم الذى يطبع أغلب حواراتنا فى مصر، والتى لا تكاد تربط فيها بين السؤال وإجابته. وقد دار فى ذهنى هو ونماذج مختلفة منه، وأنا فى طريقى إلى الكويت للمشاركة فى ندوة مجلة العربى السنوية، التى طلب منى أن أتحدث فيها عن دور برامج الحوار فى تأسيس ثقافة التسامح والسلام.
استعدت تجربتى مع برنامج نقطة حوار الذى أطلقته فى «بى. بى. سى» قبل الغزو الأمريكى للعراق، ليصبح ساحة تفاعل للمتحدثين بالعربية. نجح البرنامج الذى صار منذ ذلك الحين من أعمدة البرامج الأساسية فى بى بى سى، فى تفتيح مداركى على بعض أمراض الحوار العربى التى تقف عائقا أمام أى انطلاقة إلى المستقبل. وكان من أبرز ما لفت نظرى هو غياب منطلقات متفق عليها تسمح بتطوير الأفكار أو التفاعل معها.
لابد لأى حوار مثمر من أن يبدأ على أرضية مشتركة.
ولا يعنى هذا الاتفاق على منطلقات تتعلق بموضوع الحوار فحسب، لكن الأهم هو الاتفاق المبدئى على منطلقات وخلفيات المتحاورين. لا يوجد حوار بدون ثقة، وبين أطراف يعتقد كل منها أن محاوره خائن وعميل ومأجور يرغب فى نشر الفساد فى الأرض (وأحيانا كاره للوطن والدين.. فوق البيعة).
النتيجة الطبيعية لغياب الثقة هو ما يحدث فى المرحلة الثانية من الحوار، وهو الفشل الكامل فى الاستماع إلى الرأى المطروح، والعجز المطلق عن التعامل معه بالنقد أو التطوير. وبسبب ذلك يتحول الحوار إلى ملاسنة واتهامات بالتخوين تعمق أزمات المجتمع بدلا من أن تسهم فى فهمها.
مبادئ الحوار تغيب، ومعها الإرادة سياسية المطلوبة لدعم نقاش مجتمعى واسع نحتاجه بشدة من أجل المصلحة العامة. وللأسف فإن الاعتقاد السائد والدفين فى الدوائر القريبة من السلطة.
هو أن السماح لأى فكر مخالف بالخروج إلى العلن يهدد الأفكار «الجيدة». والتصور الدارج هو أن شعبنا بالضرورة جاهل ويمكن خداعه، وأعداؤنا لسبب ما، لديهم قدرات خارقة تمكنهم من استغلال هذا النشاط الضار المسمى التفكير، للقضاء على الأفكار الجيدة (أفكارنا). هذه الأفكار لسبب ما تحتاج لحماية استثنائية بدعم المروجين لها، وإفراد المجال لهم فى الصحف والمجلات والإذاعات ومحطات التليفزيون. بل وأكثر من هذا بتحويلهم إلى ضيوف على بعضهم البعض، ليصبحوا محاورين بكسر الواو، ومحاورين بفتحها.
الفكر الأوحد يناقش نفسه ويهلل لنفسه ويؤكد لنفسه أننا على الطريق الصحيح، أما الأفكار المخالفة فربما يكون الأفضل لها أن تموت، هى وأصحابها.
لا أعلم متى نخرج من هذه الأزمة ولكننى أزعم أن هناك ضرورة لإعادة إرساء تقاليد الحوار والمناظرات فى المدارس والجامعات لحماية الأجيال القادمة من وباء الهوس بالذات، وتعليمهم ثقافة الاستماع، والفهم، والتفكير، والاختلاف.
وأخيرا، هذا المقال مجرد «صباح الخير» كالتى وردت فى البداية. يمكن الرد عليها ونقدها وتقييمها، وليس بالضرورة رفضها بتخوين الكاتب أو تكفيره بحجة أن المساحة عاليه كان يمكن استغلالها فى دعم نظرية الحق الربانى المطلق لفصيل فى فرض أسلوب حياته على المجموع، أو فى الترويج لضرورة قيام فصيل مقابل بسحل وقتل وتخوين وتعذيب وسجن كل من يخالفه.
أعرف أننا نمر بلحظات مصيرية حرجة، ويقينى أن الخطر الذى يمثله المهووسون من جميع الفصائل، يهدد الوطن أكثر من أية مخاطر أخرى.