قمة ترينيداد تؤكد انحسار الولايات المتحدة - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:25 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قمة ترينيداد تؤكد انحسار الولايات المتحدة

نشر فى : الأربعاء 22 أبريل 2009 - 7:32 م | آخر تحديث : الأربعاء 22 أبريل 2009 - 7:32 م

 «أمامى الكثير مما يجب أن أتعلمه». بهذه الكلمات القليلة استطاع أوباما أن يذيب بعض الجليد الذى رافق افتتاح القمة الخامسة لدول الأمريكتين، التى انعقدت فى عاصمة ترينيداد وتوباجو، إحدى أهم منتجعات منطقة الكاريبى وأشدها رطوبة وحرارة.

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا التواضع النادر والاستقبال الدافئ، لم يحقق باراك أوباما النجاح الذى حققه فى القمتين اللتين عقدتا خلال رحلته لأوروبا، وربما كان القول الأدق بأن أوباما بدأ تحقيق معدلات متناقصة فى النجاح والشعبية، أو القول بأن سمعة أمريكا فى عهد بوش، وأمريكا التاريخية، أصبحت تشكل ثقلا متزايدا على خطط أوباما فى التغيير، ونجاحه فى السياسة الخارجية، بحيث صار الرجل أكثر حذرا وأبطأ حركة وأقل إنجازا. وتزداد هذه الظاهرة وخصوصا كلما أطل أوباما على دول وشعوب فى الجنوب، حيث يظل الناس يذكرون لأمريكا سيئاتها ويعتبرون أوباما ظاهرة عابرة لن تغير من واقع السياسة الأمريكية فى قليل أو كثير.

***

لفت انتباهى رأى أبداه مؤخرا روبرت كاجان أحد قادة المحافظين الجدد، قال كاجان إنه يوجد فى أمريكا وخارجها، من يتوهم أن سياسات أوباما الخارجية تختلف عن سياسات الرئيس السابق جورج بوش. ما لا يعرفه الكثيرون هو أن الأساس فى الحالتين واحد، وما فعله باراك حتى الآن لا يخرج عن أنه «تنويعات» لا أكثر ولا أقل. وجاء أنصار أوباما المتحمسون للتغيير سريعا، إذ قال أحدهم إن الأهم فى هذه الحالة هو العين التى يرى الرئيس العالم بها، ولا شك أن إدراك أوباما للقضايا الدولية يختلف عن إدراك ورؤية بوش لها.

وجاءت قمة ترينيداد وتوباجو لتؤكد الرأيين معا. فسياسة الولايات المتحدة تجاه أمريكا اللاتينية ما يزال جوهرها ثابت ولن يتغير. وفى الوقت نفسه يوجد رئيس على قمة الحكم فى أمريكا يلاطف شافيز رئيس فنزويلا و«يقول كلاما» فى المؤتمر وخارجه يحمل معنى الأمل فى التغيير وتحسين الظروف والعلاقات. ولكن ليس الآن. وقد أثيرت قضيتان وضعتا السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم الثالث، وتحديدا تجاه أمريكا الجنوبية، على المحك، ليستنتج المسئولون والمعلقون ما شاء لهم أن يستنتجوا. أثيرت القضية الأولى قبل انعقاد المؤتمر، وبالتحديد فى اليوم السابق على انعقاده خلال زيارة الرئيس أوباما لدولة المكسيك، وكانت الزيارة الأولى التى يقوم بها رئيس أمريكى منذ زيارة الرئيس وليام كلينتون قبل مغادرته السلطة. وأظن أن كثيرين يذكرون أن كلينتون الذى أهمل أمريكا اللاتينية وفلسطين تحرك فيما يشبه حركة الممثلين الذين يؤدون أدوارا بالمسرح الصامت، فإذا به يزور المكسيك فجأة، ربما لإرضاء ملايين الناخبين المتحدثين بالإسبانية والمنحدرين من أصول مكسيكية، ويستدعى ياسر عرفات وباراك للقاء نتائجه معروفة قبل انعقاده، وربما لإرضاء أصوات اليهود الأمريكيين أو لعلمه المسبق أن الجمهوريين قرروا ألا يشغلهم الصراع العربى الإسرائيلى إن جاءوا إلى الحكم، وأن يركزوا جهودهم على الاستعداد لتنفيذ خطة غزو العراق.

***

كان قرار زيارة أوباما للمكسيك فى بداية عهده متعدد الأهداف، أهمها على كل حال وأكثرها وضوحا، إعلان نوايا حكومة باراك أوباما تجاه أمريكا الجنوبية ومحو الصورة السيئة التى تشكلت خلال سنوات بوش، وخاصة خلال انعقاد القمة الرابعة فى الأرجنتين حين عومل الرئيس بوش معاملة سيئة للغاية شعبيا ورسميا. يأتى بعده فى الأهمية هدف دعم فيليبى كالديرون، الرئيس المكسيكى للصمود فى وجه أخطر أزمات واجهت الدولة المكسيكية منذ عقود. لم تعد تتردد أجهزة الإعلام الأمريكية فى التنبؤ بأن الولايات المتحدة ودولا غربية أخرى قد تعلن قريبا أن المكسيك «دولة فاشلة»؛ ففى شمال المكسيك، أى قرب الحدود المكسيكية الأمريكية، تشتعل حرب يقودها رجال عصابات يتاجرون فى المخدرات وكل شىء آخر ضد رجال الجيش والشرطة المكسيكية وضد ميليشيات يمينية متطرفة تعبر الحدود بين الولايات المتحدة إلى المكسيك لتقتل المدنيين وتروعهم ولتمنع هجرتهم إلى الشمال.

***

يتردد كثيرا المثل القائل من «جاور السعيد يسعد». نسمعه يتردد فى الشرق الأوسط تلميحا إلى ضرورة إقامة علاقات طبيعية ووثيقة مع إسرائيل، عسى أن ينتقل إلينا بعض رخائها ونفحات من ديمقراطيتها، ونسمعه يتردد عن العلاقة المكسيكية الأمريكية، حيث تستفيد المكسيك فائدة عظمى من تجاورها مع الولايات المتحدة. تعلمنا من السلوك الإسرائيلى وأحوال كل من يجاورون إسرائيل أن أحدا من الجيران لم يسعد سعادة إسرائيل، بل عاش سبعين عاما أو أكثر فى تعاسة تتفاقم يوما بعد يوم بسبب هذا «الجار السعيد» وأسباب أخرى. ونتعلم الآن من الأوراق والتقارير التى نشرت قبل وبعد زيارة أوباما للمكسيك أنه كان هناك ليخفف معنويا، وماديا إن أمكن، وقع الكارثة التى أصابت المكسيك، بسبب اعتمادها شبه المطلق على جار فى شكل دولة أعظم غارقة فى الديون ومهددة بأسوأ أزمة مالية فى تاريخ الرأسمالية. وأظن أن المسئولين فى واشنطن قدروا حجم الغضب فى المكسيك وفى غيره من دول أمريكا الجنوبية فاضطروا إلى إجراء تغيير جوهرى فى موقفين أمريكيين كانا فى حكم الثوابت حتى شهر مضى.

إذ خرجت هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية تعلن أن النهم الأمريكى لاستهلاك المخدرات السبب الأول فى زراعته فى أمريكا الجنوبية، وأن الحكومة الأمريكية فشلت فى وقف تصدير جميع أنواع السلاح اليدوى عبر الحدود، وجاء باراك أوباما بعدها ليعلن أن الجيش الأمريكى لن يضغط على دول أمريكا اللاتينية لإحراق زراعات الكوكا فيها وإفقار شعوبها. ما لم تقله السيدة هيلارى ولم يقله السيد باراك هو أن مصالح كبرى أقوى من نوايا أوباما وحكومته تقف بعناد فى وجه أى إصلاح للسياسة الأمريكية تجاه المكسيك واتجاه أمريكا الجنوبية بشكل عام، وأهمها مصالح عصابات التهريب ومصالح نقابات سائقى المقطورات ومصالح القوى اليمينية المتطرفة المعادية للهجرة الجنوبية إلى الشمال ومصالح بعض الدوائر الدينية التى تخشى من زيادة عدد المنتمين إلى كنائس أخرى.

***

أثيرت القضية الثانية، كما أثيرت القضية الأولى، قبل انعقاد المؤتمر بساعات وكلاهما دعم الشعور لدى بعض المراقبين بأن أوباما قد يعجز عن إصلاح السياسة الخارجية الأمريكية. فى القضية الثانية بذلت الدبلوماسية الأمريكية جهودا هائلة لمنع توجيه الدعوة لكوبا لاستئناف عضويتها فى منظمة الدول الأمريكية، وهى العضوية التى جمدت فى عام 1962، كخطوة انتقامية من جانب الرئيس الأمريكى ذى الشعبية الفائقة وقتذاك، جون كيندى. هنا فى ترينيداد وتوباجو وقعت المواجهة التى كان يمكن للرئيس أوباما تفاديها. كان يعرف، ولاشك، أن القارة التى يزورها ليست تماما القارة التى زارها أسلافه من رؤساء أمريكا. «الدنيا تغيرت» فى أمريكا الجنوبية. عادت الشعوب تتحدث عن «الكرامة»، وحقوق الدول الصغرى، وطموحات السكان الأصليين، والرغبة فى تذكير الطبقة الحاكمة فى واشنطن بأن الولايات المتحدة مدينة بالكثير جدا لأمريكا الجنوبية. لذلك لم تكن مفاجأة كبيرة للصحفيين والمسئولين الأمريكيين بإدرة الرئيس شافيز حين قدم للرئيس أوباما كتابا بالإسبانية بعنوان «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية: خمسة قرون من نهب فى القارة» وهو أحد الكتب التى يتداولها المثقفون اليساريون والإصلاحيون الجدد فى القارة الجنوبية، ويحشدون به الشعوب ضد السياسات الأمريكية.

تبقى فى نظرى مفارقة تدعو إلى التوقف عندها. صار الزعماء الجدد فى أمريكا اللاتينية يتعاملون مع رئيس أقوى دولة فى فضائهم الغربى، وربما فى الفضاء العالمى، غير مكترثين بانتقام أو بحصار لبلادهم أو لتوقف فى التجارة، ولكن هؤلاء الزعماء، مثل الرئيس المكسيكى، يعرفون أن شعوبهم معجبة إعجابا شديدا وغير مسبوق برئيس أمريكى أسمر اللون وطيب المعشر وحلو النوايا، هؤلاء انتهزوا فرصة وجوده بينهم ليقتربوا منه ويلاحقوه ويظهروا معه فى الصور. البعض منهم تصرف بانتهازية مفرطة مع أوباما كوسيلة ركوب للحصول على شعبية أكبر لهم، وفعلوا فى بلادهم ما يفعله الصغار فى مصر عندما «يتشعلقون» فى عربة الحنطور لهوا أو للتفاخر على أقرانهم، رغم شعورهم بالألم نتيجة ضربات سياط صاحب العربة.

***

كانت نتيجة المواجهة باعتراف معظم المعلقين الذين راقبوا أو حضروا المؤتمر أن أمريكا خسرت المواجهة، وكتب أحدهم عن أن السياسة الأمريكية تجاه كوبا سقطت سقوطا فاحشا ولن يرضى الرأى العام الأمريكى أن تستمر. إذ إنه حين ترفض دول أمريكا الجنوبية توقيع بيان نهائى لا يتضمن فقرة عن عودة كوبا، وحين يعلن مسئولون فى وزارة الخارجية الأمريكية أن سياسة الحصار التى فرضت على كوبا لم تغير فى نظامها ولا فى ولاء شعبها لزعمائه الذين كفلوا ما لم تكفله الأنظمة التى أخذت بمبادئ إجماع واشنطن واقتصاد السوق، وهى المبادئ التى تسببت فى خراب نصف القارة. ودليل هؤلاء جميعا أن معظم دول القارة تعمل الآن، بدون الولايات المتحدة، من أجل تحقيق انفتاح سياسى فى كوبا، وفى الوقت نفسه تتكاتف لدعمها اقتصاديا وسياسيا.

قمة الأربع والثلاثين درس للقمم العربية. تحركت أمريكا الجنوبية واعترف الأمريكيون قبل غيرهم بفشل سياساتهم تجاه القارة. نهضت القارة. وتقوم إحدى دولها بتقديم نموذج لدولة متخلفة تصعد إلى مصاف الدول الكبرى، وعادت كوبا واقعا لا يمكن إنكاره منتصرة على واشنطن، ومنتصرة على إحدى أهم جماعات الضغط فى أمريكا.

لذلك لست يائسا، ولن أكون.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي