علاوة على الاعتبارات الاقتصادية والأمنية، التى تحكم السلوك التصويتى للناخبين فى كل عصر ومصر؛ تتأسس القواعد الحاكمة للتصويت خلال الاستحقاقين الرئاسى والبرلمانى، اللذين تشهدهما تركيا هذه الأيام، وكالمعتاد، على قاعدة الالتزام الأيديولوجى الحزبى المناطقى.
من هذا المنطلق، يصعب الادعاء أن أيا من الولايات التركية الواحد والثمانين، قد عرفت ما يمكن أن تصنَفه أدبيات النظم السياسية المتعلقة بالممارسات الانتخابية «تمـردا» تصويتيا. فوفقا للمألوف، احتفظ حزب العدالة والتنمية، بأصوات جل ناخبى قلب الأناضول، وعلى امتداد ساحل البحرالأسود. فى حين سيطرت المعارضة على معاقل حزب الشعب الجمهورى التقليدية، بطول ساحلى البحر المتوسط وبحر إيجه.
انطوت نتائج التصويت على مستوى المحافظات العشر، التــى تضررت من الزلزال المدمر، الذى ضرب البلاد فى السادس من فبراير الماضى؛ كمثل هاتــاى، وغــازى عنتــاب، وكهرمــان مرعــش، والتى تشكل معينا تصويتيا لإردوغان، على مفارقة ملفتة. فلقد شهدت مشــاركة كثيفة وغيــر متوقعــة، مصحوبة بتأييد عارم لإردوغان وتحالفه الحاكم. حيث لم يتورع مواطنوها، الذين سبق لهم توجيه أصابع الاتهام إلى الرئيس وحكومته، بجريرة العجز عن محاربة الفساد فى أعمال وقوانين البناء، والإخفاق فى عمليات الإنقاذ والإغاثة، عن منحه أصواتهم خلال الاستحقاق الرئاسى. وربما يعود ذلك إلى استراتيجية إردوغان فى التعاطى مع أزمة الزلزال. إذ اعترف بجوانب القصور، وانبرى فى معالجتها. وأثناء الاقتراع، هيأت الحكومة التسهيلات اللوجيستية المجانية لتمكين سكان تلك المناطق من التصويت الآمن والمريح أينما شاءوا. ولعل هذا ما شجع إردوغان على معاودة التواصل معهم، قبل جولة الإعادة، توخيا للاحتفاظ بدعمهم التصويتى.
فى سابقة لم تعهدها انتخابات الرئاسة التركية منذ تدشين انتخاب الرئيس بالاقتراع العام المباشر عام 2014، شهد الاستحقاق الرئاسى الحالى مفاجأة مدوية؛ تتمثل فى استئثار، كليشدارأوغلو، منافس إردوغان، بنصيب الأسد من أصوات مدينة اسطنبول، ذات الإثنى عشر مليون ناخب. الأمر الذى يشى بتراجع حضور الحزب الحاكم فى المدينة الأهم، التى تشكل القوة التصويتية الضاربة، وعنصر الحسم فى أى استحقاق، كونها تضم 18% من إجمالى الناخبين الأتراك، الذين يتجاوز تعدادهم 64 مليونا. يأتى هذا، بينما تقارب عدد الأصوات، التى انتزعها إردوغان مع تلك التى اقتنصها، كليشدار أوغلو، فى أنقرة، التى تحتضن مقـر حـزب الشـعب الجمهـورى المعارض، كما توصـف بأنهـا «قلعة العلمانيـة». فرغم حصد، كليشدار أوغلـو، أغلبية أصواتها، تمكن إردوغان من تقلـيص الفـارق بينهما هناك إلـى 1 % فقـط. وهو مـا يؤكد نجاح المتنافسين الأساسيين فى اختراق مرابض بعضهما البعض، وإيجاد كل منهما مناصريـن له بين صفوف خصمه.
حظيت الأصوات، التى حصل عليها المرشح الرئاسى القومى المتشدد عن «تحالف الأجداد»، سنان أوغان، والتى تقارب ثلاثة ملايين صوت، تشكل نسبة 5.4 % من إجمالى أصوات الناخبين، بأهمية فائقة. إذ منحته دور «صانع الملوك» فى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها يوم الثامن والعشرين من الشهر الحالى. فقد تهافت المرشحان المتنافسان، إردوغان، وكليشدار أوغلو، على الظفر بأكبر عدد منها لحسم السباق. وفى سبيل ذلك، التقى الغريمان السياسيان، كل على حدة بأوغان. لاسيما أن مراقبين أتراك لا يستبعدون حصد، الأخير، لزهاء 800 ألف صوت، تمثل نسبة 4. %، هى إجمالى الأصوات التى ذهبت عفويا إلى، محرم إينجه، المرشح الرابع المنسحب من الماراثون الرئاسى، قبل اثنتين وسبعين ساعة من موعد إجراء جولته الأولى. حيث يرى أولئك المراقبون أن نسبة معتبرة من الأصوات، التى حصل عليها، أوغان، قد آلت إليه من الناخبين، الذين كانوا من المفترض أن يصوتوا أصلا لصالح، إينجه، لكنهم بدلوا مواقفهم فى اللحظات الأخيرة.
سلطت الانتخابات الرئاسية، بجولتيها، الضوء على بروز دور التيار القومى، باعتباره أحد المكونات الرئيسة فى الخريطة الانتخابية التركية. حيث يُمثل ما يزيد عن 20% من إجمالى الناخبين، ما يجعل أصوات القوميين عامل حسم دقيق فى ترجيح كفة مرشح على الآخر. وقد كشفت الاستحقاقات الحالية، عن تمتع القوميين بخزان تصويتى غير هين. تجلى فى عدد الأصوات، التى اقتنصها، أوغان، أو حصلت عليها الأحزاب القومية، سواء المنخرطة فى تحالف الشعب الحاكم، أو تلك المنضوية تحت لواء تحالف الأمة المعارض، أو تحالف الأجداد.
رغم أنها أفرزت برلمانا يحتفظ فيه تحالف الشعب، الذى يقوده حزب العدالة والتنمية الحاكم بالأغلبية؛ كشفت نتائج الاستحقاق التشريعى، عن خريطة برلمانية تُعقّد المشهد السياسى فى البلاد؛ بعدما عجز أى من التحالفات الانتخابية المتنافسة عن تحقيق أغلبية حاسمة، تمكنه من التحرك المنفرد لتعديل الدستور، أو إقرار القوانين. فقد حصل تحالف الشعب، الذى يضم أحزاب: العدالة والتنمية، الحركة القومية، الوحدة الكبرى، هدى بار، اليسار الديمقراطى، والرفاه من جديد، على نسبة 53.7% من أصوات الناخبين، محققا بذلك 322 مقعدا؛ أى أقل من أغلبية الثلثين، التى تبلغ 400 مقعد، أو الثلاثة أخماس، التى تبلغ 360 مقعدا. وقد اعترف إردوغان بتراجع شعبية حزبه فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التى فقد على إثرها 28 مقعدا، مقارنة بانتخابات عام 2018. فيما حصل تحالف «الأمة» المعارض، الذى يضم حزب الشعب الجمهورى، وحزب الجيد، وحزب السعادة، وحزب المستقبل، وحزب الديمقراطية والتقدم، والحزب الديمقراطى، على نسبة 35.5%، بما يعادل 213 مقعدا.
تستبد بنصف الناخبين الأتراك، الذين عايشوا خبرات الماضى المريرة، مخاوف من أن تعيدهم تلك النتائج إلى زمن الحكومات الائتلافية غير المستقرة، التى غلب على تشكيلتها نخب يسارية، تحت إشراف الجيش. فلقد انزلقت البلاد إلى غياهب ذلك العهد المظلم، عقب انقلاب، ألب أرسلان، فى مايو 1960، وحتى فوز حزب العدالة والتنمية بأغلبية برلمانية مكنته من تشكيل الحكومة منفردا عام 2002. وطوال هذه الحقبة، وبجريرة الخلافات السياسية المتكررة بين الشركاء، لم تكمل أى حكومة ائتلافية، أو حكومة أقلية، ولايتها الدستورية. إذ لم يتعد عمر الواحدة منها بضعة أشهر؛ حتى أن رئيسى الوزراء السابقَين، بولنت أجاويد، وتانسو تشيلر، شكلا ثلاث حكومات خلال عامين اثنين؛ منها حكومتان خلال شهر واحد فقط، هو أكتوبر 1995. ولطالما صاحب انهيار تلك الحكومات قصيرة الأجل، أزمات سياسية واقتصادية طاحنة؛ كما سادت أجواء من الاضطراب الأمنى والمجتمعى، فضلا عن الجمود السياسى. وغالبا ما كانت تفضى الأمور إلى تدخل الجيش، وسيطرته على مقاليد الحكم. على غرار انقلاب 12 سبتمبر 1980، بقيادة، كنعان إيفرين، الذى أسقط حكومة ائتلافية، برئاسة سليمان ديميرل. ثم الانقلاب العسكرى الحداثى فى 28 فبراير1997، الذى أجهز على ائتلاف حكومى مكون من حزب الرفاه، بزعامة، نجم الدين أربكان، وحزب الطريق القويم، بزعامة، تانسو تشيلر.
لا يخفى خبراء أتراك فى القانون الدستورى، خشيتهم من أن يتمخض التشكيل الجديد للبرلمان، فى دورته الثامنة والعشرين، عن أزمة سياسية، ربما تقود إلى انتخابات برلمانية مبكرة. خصوصا بعدما عجز التحالفان المتنافسان عن حصد أغلبية برلمانية حاسمة. لذلك، لا يستبعد أولئك الخبراء، لجوء إردوغان، حالة فوزه فى الجولة الثانية من الاستحقاق الرئاسى، إلى سيناريو العام 2015؛ بحيث يدعو إلى انتخابات برلمانية مبكرة. متوخيا بذلك تحصيل عدد أكبر من مقاعد البرلمان، بما يوفر لتحالف الشعب الحاكم أغلبية مريحة، تخوله تمرير القوانين والتشريعات، دون الحاجة إلى التداول أو التفاهم مع أحزاب أخرى.
أما إذا تسنى للمعارضة حسم الجولة الثانية من الماراثون الرئاسى لمصلحتها، فستجد نفسها فى مواجهة برلمان مناهض لتوجهاتها. ما يعوقها عن تنفيذ سياساتها، أو تحقيق وعودها الخاصة بالتحول من نظام الحكم الرئاسى نحو النظام البرلمانى المعزز. بموازاة ذلك، ورغم الصلاحيات الرئاسية الواسعة، قد يصطدم، كليشدار أوغلو«الرئيس»، بمنظومة معرقلة، تضم دولة عميقة، وبيروقراطية، ومؤسسات، يتغلغل فيها رجال حزب العدالة والتحالف الحاكم. الأمر الذى ربما يقوض مسيرته، ويضطره إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، بضغط من إردوغان وحلفائه.