عاد النظام السياسى لسيرته الأولى، أو لنكن أكثر دقة، فهو عاد لنفس ممارسات التضييق على المساحات المستقلة للبحث الاجتماعى ولا سيما السياسى، ولكن بهدف يتخطى مجرد عملية التأميم السياسى للولوج ــ ربما ــ لعملية التجفيف التام والتهميش المتعمد للباحثين السياسيين والاجتماعيين.
حتى نتمكن من تحسس الآفاق والمساحات المستقبلية للعلوم السياسية، يجب أن نفهم كيف يختلف النظام السياسى الحالى عن سابقه وهو فى تقديرى اختلاف جذرى على عكس ما يبدو أحيانا! فى الفترة بين عامى ١٩٥٣ و٢٠١٣ ــ وهى الفترة التى شهدت طفرة فى دراسة السياسة كعلم فى مصر ــ كان النظام السياسى قائما على حزب سياسى واحد، تحول فى عهد السادات إلى حزب مهيمن مع اعتماد نسخ محدودة ومقيدة من التعددية السياسية. كان هذا الحزب السياسى هو بمثابة المطبخ السياسى للدولة، فهو من ناحية ينسق مع أجهزة الدولة السيادية ــ الجيش والمخابرات والداخلية والخارجية ــ ومن ناحية أخرى يرسم السياسات العامة ويوجه الوزارات الخدمية، ومن ناحية ثالثة يقوم بعملية توزيع الموارد مقابل الولاء السياسى فى كل محافظات مصر بلا استثناء، ومن ناحية رابعة يقوم بعمليات الإعداد والتنشئة السياسية وتجنيد النخب الجديدة وهو فى كل ذلك يحتاج إلى العلوم السياسية وإلى بعض خبرات الباحثين السياسيين!
أما بعد ٢٠١٣، فلا يوجد هذا الحزب! عمليات التنشئة والتجنيد السياسى تتم مباشرة من الحكومة وبإشراف مباشر من الرئاسة، تقوم الأخيرة ومعها الأجهزة السيادية بعمليات رسم السياسة العامة وتوزيع الموارد فى ظل تغييب شبه تام للمجتمع المدنى والمجتمعات المحلية، وفى ظل تفريغ معنى التعددية الحزبية والنقابية من أى مضمون، وفهمى لشخصية الرئيس من ملاحظاتى على أدائه خلال السنوات الثلاث الماضية أنه لا يؤمن أصلا بالسياسة ولا يرى ضرورة وجود مجتمع سياسى حتى بالمعنى التأميمى القديم، ومن هنا فهو لا يسعى لتأميم السياسة ولا العلوم السياسية لأنه لا يراها أصلا ولا يؤمن بأهميتها!
***
فى ظل هذه الظروف أتصور أن هناك خيارات قد يلجأ لها الباحثون السياسيون وخاصة من الأصغر سنا خلال السنوات القليلة القادمة:
أولا، خيار العلم البحت، فيجب فى تقديرى أن يبتعد الباحثون السياسيون الأصغر سننا خلال الفترة القادمة عن العمل الحزبى والعام وأن يقوموا بتركيز جهدهم على النهل من العلم، فثمن اتخاذ مواقف سياسية عامة سواء بالانضمام إلى أحزاب أو حركات اجتماعية، أو باتخاذ مواقف عامة منظمة ومعلنة سيكون مؤلما ولن يتمكن كثيرون من دفعه، فضلا عن أن الحياة السياسية الحالية فى مصر حاليا بائسة، ليس فقط من ناحية السلطة، ولكن أيضا من ناحية المعارضة، فلا توجد أهداف وطنية بالمعنى التقليدى بقدر ما توجد أهداف مصلحية وشللية، ومن هنا فالتركيز يجب أن ينصب على العلم والبحث وتأمين موارد الحياة والعيش المستور بعيدا عن أى أذى قد يطال البعض بلا مقابل ولا طائل!
ثانيا، خيار البينية: فعلى الباحثين السياسيين فى مقتبل حياتهم العملية والعلمية خلال السنوات القادمة توجيه المزيد من الاهتمام إلى العلوم الاجتماعية ولا سيما علم الاجتماع وعلم النفس بالإضافة للتاريخ والفلسفة، فمن ناحية أصبحت البينية ضرورة ملحة لدراسة الظواهر السياسية المعاصرة، ومن ناحية ثانية فإن التركيز على المناهج التقليدية فى علم السياسة والتى مازال يعتمدها أغلب الباحثون السياسيون فى مصر لم تعد ذات فائدة ولا طائل كبير لأن الواقع المصرى السياسى والاجتماعى تغير كثيرا ولم يعد ينفع معه ما كان ينفع فى الماضى.
ثالثا، خيار المناطق: فالخيار الثالث المتاح أيضا هو التركيز على دراسات المناطق، وخصوصا المنطقة الأسيوية واللاتينية وأوروبا الشرقية والغربية وأفريقيا، فخيار المناطق أيضا سيعطى للباحثين السياسيين المصريين متنفسا بعيدا عن الضغوط فى الشأن الداخلى، وهو من ناحية أخرى سيوفر للباحث فرص أوسع للدراسة والفهم والمقاربة والمقارنة مما سيتيح دراسة متعمقة لنظم هذه المناطق وهو علم ربما تحتاجه مصر فى الأجلين المتوسط والبعيد.
رابعا، خيار الموضوعات: فى تقديرى فإن اختيار المواضيع محل الدراسة يجب أيضا أن يشهد مجموعة من التحولات، فالقضايا التقليدية مثل التحول الديمقراطى والإسلام السياسى وحقوق الإنسان ودراسات المجتمع المدنى والصراع العربى الإسرائيلى بقدر أهميتها بقدر ما تتعرض له من ضغوط وتضييق للمساحات فضلا عن المخاطر وهو ما يؤدى دائما إلى الدفع باتجاه عدم الحيادية، واقترح مجموعة من الموضوعات البديلة مثل المنظمات الدولية وقضايا الهجرة واللاجئين والمرأة والبيئة والأقليات والإرهاب، فضلا عن القضايا الجندرية وقضايا التنمية السياسية والاقتصاد السياسى..الخ. فهذه الموضوعات فضلا عن ثرائها ورغم كل الأبحاث التى أجريت بشأنها، مازالت تحتاج إلى المزيد من البحث والتنقيب، كما أن فرص دعم المشروعات البحثية المرتبطة بها أكبر بكثير.
خامسا، خيار العلاقات: فى ظل الظروف الحالية، فلا مكان للباحث المستقل بذاته المنكب على حياته الشخصية وفقط، فإما أنه سيعزل نفسه وإما أنه سيحرم من الفرص، وفى كل الأحوال فسيفقد مساحة اجتماعية مطلوبة من الأمان فى هذه الظروف. على كل الباحثين الحرص على توطيد علاقات شخصية ومهنية مع دوائر مختلفة رسمية وغير رسمية، وعليهم أيضا الابتعاد قدر الإمكان عن اتخاذ مواقف حادة تجاه البعض وخاصة من زملاء المهنة مهما كانت الاختلافات السياسية! التمتع بقدر من البرجماتية والتخلى عن النظريات الجامدة للخير والشر وخداع الأساطير القيمية مهم للولوج إلى شبكات الأمان الاجتماعية فى الحقل الأكاديمى المصرى.
خامسا، خيار السفر: لا نتحدث هنا عن هجرة أو نزوح، ولكن نتحدث عن سفر مؤقت قصير أو متوسط الأجل من أجل اكتساب خبرات جديدة مطلوبة فى المجالين الإنسانى والمهنى، فى ظل بيئات أكثر انفتاحا وتقبلا للعمل البحثى المستقل. الفارق بين البحث السياسى فى الدول العربية ولا سيما مصر وبين البحث السياسى فى الدول الغربية أو حتى الشرقية غير العربية هو فارق فى البيئة المحيطة بالمجال البحثى وفى مجمل العلاقات المهنية التى عادة ما تأخذ أساليب أكثر مهنية واحترافية من نظيراتها العربية، وينتج عن كل ذلك فرص أكبر للباحثين للترقى والتطوير، وحتى من لا يتمكن من السفر لظروف اجتماعية أو شخصية أو غيرها فعليه أن يبقى على مساحة مفتوحة مع العالم الخارجى سواء من خلال المؤتمرات أو المشاريع البحثية، فأى مساحة للتواصل مع العالم الخارجى تبقى مهمة فى هذه الأيام.
***
الخيارات السابقة هى مجرد مساحات قد تساعد على مواجهة الظروف المحيطة بالبحث السياسى والاجتماعى فى مصر، وقد يلجأ الباحث إلى أكثر من خيار بالطبع، ولا يعنى هذا بطبيعة الحال أى أمان مطلق، بقدر ما يعنى محاولات للإبقاء على حد أدنى من الاستقلالية وتوفير مساحة للتطوير والإبداع بشكل آمن نسبيا. هنا يجب على أساتذة العلوم السياسية والاجتماعية أو الباحثين السياسيين الأكبر سنا والأكثر خبرة أن يدعموا الأجيال الأصغر، وأن يدمجوها اجتماعيا ومهنيا فى شبكة علاقاتهم الوظيفية داخليا وخارجيا، وألا يتعاملوا معهم باعتبارهم أندادا أو باعتبارهم مهددين لمكانتهم الوظيفية، فالعكس تماما هو الصحيح، المطلوب هو تأمين أوضاع شباب الباحثين اجتماعيا وأكاديميا، والشد من أذرهم والمساهمة فى رسم مستقبلهم.
أعرف الكثير من الباحثين الشباب سواء فى العلوم السياسية أو الاجتماعية، ممن ضاقت بهم الحال وتدهورت بهم الأوضاع رغم اجتهادهم وموهبتهم، وأتصور أنهم فى حاجة ماسة إلى الدعم والمساندة، كذلك أتخيل أن التواصل بين شباب وباحثى العلوم السياسية فى جامعات مصر المختلفة أصبح واجبا وخصوصا فى ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعى، فكل خطوة لها علاقة بالتشبيك البرجماتى وبالبحث عن علاقات وظيفية آمنة غير مسيسة من شأنها أن تبقى على مساحات الأمل موجودة.