عطفا على ما سبق فى الجزء الأول من هذا المقال المركب، وإذ عالجنا طرفا من الحديث حول مصطلح «الشرق الأوسط»، فقد لاحظنا أن التلوينات المختلفة للمصطلح استهدفت بصورة أساسية (حشر) إسرائيل حشرا فى زمرة مجموعة البلدان الداخلة فى الدائرة التاريخية ــ الحضارية للوطن العربى خصوصا والعالم الإسلامى عموما، ومن ثم تمييع الهوية فى الحاليْن تمييعا. سعيا فى التحليل الأخير إلى تمهيد الطريق نحو تثبيت أركان المشروع الصهيونى ومن ثم مقاسمة ثروات المنطقة بين «الإمبريالية الكبرى» والإمبريالية الصغرى».
وعودا على بدء، نشير إلى أن أنظار العالم كانت اتجهت إلى المنطقة العربية إثر حرب أكتوبر 1973، العسكرية والنفطية، التى ترتب عليها إعلان الدول العربية (أعضاء منظمة أوابك) فى 15 أكتوبر 1973 حظر تصدير النفط بصورة كلية ولكن على عدة دفعات إلى عشر دول شاركت فى دعم إسرائيل خلال حرب أكتوبر (فى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ثم هولندا) والحظر الجزئى على ست دول أخرى؛ بالإضافة إلى الإعلان فى 5 نوفمبر عن خفض إنتاج النفط بنسبة 25%، ورفع سعر برميل النفط ليصل فيما بعد بالزيادة إلى أربعة أمثال، من ثلاثة دولارات إلى اثنا عشر دولارا (بداية ما سمى «الفوْرة النفطية الأولى«). بالتزامن مع ذلك، تكونت فوائض مالية ضخمة سميت بالدولارات البترولية. وكان إن استوعبت الدول الغربية والولايات المتحدة الدرس، فدعت هذه بقيادة الوزير كيسنجر إلى تكوين «الوكالة الدولية للطاقة» لتقليل الاعتمادية الاستيرادية الغربية على النفط العربى، من جهة أولى، عبر زيادة استخدام بدائل الطاقة الأحفورية وزيادة الإنتاج المحلى من النفط والغاز (ولو من النفط الصخرى فيما بعد). ومن جهة أخرى: تغيير «قواعد اللعبة» فى السوق الدولية للطاقة وتبديل الصيغة التوازنية بين قوى العرض وقوى الطلب، وبين المنتجين والمستهلكين على الصعيد العالمى، ومن ثم إحداث صدمات سعرية متلاحقة تمتص الفورات السعرية السابقة، خاصة فى منتصف السبعينات وأوائل الثمانينات. أما بخصوص الفوائض المالية، فقد تكفلت أسواق المال الأوروبية وأسواق السندات وأذون الخزانة الأمريكية باستيعاب الفائض المالى المتراكم من «الدولارات البترولية» فيما سُمى «إعادة التدوير» Recycling. علما بأن القيمة الإجمالية للثروة المالية الخليجية المستثمرة فى السندات الأمريكية حاليا قد تقارب التريليون دولار (بالإضافة إلى 2 تريليون من الصين..!). أما ما يتبقى من الموارد المالية لمبيعات النفط فيتم امتصاصه من خلال صفقات السلاح وعوائد الاستثمار للشركات الغربية والأمريكية فى أسواق بلدان المشرق والخليج والمغرب الكبير. كل ذلك حال دون السماح بتدفق الاستثمارات الخارجية بالكم والكيف المناسبين بما يسمح بتحول أى من الدول العربية المؤهلة (مثل مصر) إلى دولة صناعية جديدة بامتياز، متمتعة مع ذلك بميزة التوازن الاستراتيجى العتيد.
هذا، وإن (العصا لمن عصى) كما يتواتر فى القول المأثور، ولكنها عصا بدون «جزرة» عكس المألوف. وهذا ما يتكشف فى سياق الموجات التطبيعية، ومحاولاتها، منذ أواخر السبعينيات حتى اليوم.
***
هذه المنطقة العربية إذن، منطقتنا، منكوبة بنعمة النفط، التى أثقلت كاهلها فوقعت فريسة لمن لا يرحم ولا يسمح بنزول الرحمة من الرب، إن صح التعبير. فكأنها نعمة استحالت نقمة لا تطاق..!
فهذا إذن هو النموذج العربى، خلال نصف القرن الأخير، يُبرز الأثر الساحق للعامل الخارجي، والذى لم يكن فى مُكْنته أن يمارس تأثيره، إن لم يجد فى الطرف المقابل بيئة مواتية من الضعف الهيكلى للمنظومات الكلية أو ما يسمى بالتكوينات الاقتصاديةــالاجتماعية، وضعف وتشرذم النخب السياسية والثقافية تحت ضغوط لم تحتملها خلال القرون الخمسة الأخيرة على التقريب، فى الأقل.
ذلك ربما هو ما أطلق عليه المفكر العربى الجزائرى من وقت، تعبير «القابلية للاستعمار»، والتى لولا ما ولدته من أوجه الضعف الهيكلية، بعد أفول عصر الازدهار للحضارة العربية الإسلامية بأبعادها التاريخيةــالعالمية، لولا ذلك، ما قُدر للاستعمار الأجنبى الغربى أن يحل بين ظهرانينا هذا الدهر الطويل.
هذا هو النموذج العربى الذى واجه التضييق والحصار، بل العدوان فى حال المقاومة القوية للأثر التدميرى الغربى ــ الأمريكى، كما حدث فى مواجهة الثورة المصرية ــ العربية الناصرية إلى حدود العدوان المسلح بأداة إسرائيلية فى الخامس من يونيو 1967.
***
... ولم يعُدْ فى القوس منزع بعد أن ضاق المقام فى هذا الحيز المحدود؛ ويبقى أن نشير إلى النماذج الأخرى المقابلة. أولها من حيث التداعى الذهنى، النموذج الإسرائيلى، الذى يمثل حالة الاندماج التبعى فى القوى الخارجية المؤثرة، المضادة للواقع الوطنى ــ القومى العربى. تلك هى «الإمبريالية الصغرى» الإسرائيلية MiniــImperialism التى تحتمى ب ــ و(تخدم على) ــ «الإمبريالية الكبرى» ــ الأمريكية ــ لتمارس معها، من خلال ذلك، مقاسمة الثروات العربية، الطاقوية والمالية، مع مواصلة التوسع والهضم للوطن الفلسطينى المحتل واعتبار ما يبقى من دونه أرضا عربية قابلة بدورها للاحتلال وللهيمنة على كل حال.
وهناك النموذج التركى بعد انهيار الدولة العثمانية ثم الإقرار الرسمى بذلك فى اتفاقية لوزان الموقعة عام 1923 بين الدول المنتصرة فى الحرب العالمية الأولى وتركيا. فقد حدثت مقايضة يتم بمقتضاها (أوْربة) تركيا فى إطار نموذج التحديث الغربى، وسلخ تركيا من إطار الانتماء التاريخى للدائرة الحضارية الإسلامية، مقابل ضمان الحماية العسكرية (فى إطار «حلف الأطلنطى» بعد الحرب العالمية الثانية) وفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية، الأمريكية والأوروبية. وفى إطار الحماية الأمنية الغربية الأطلنطية والسياج الاستثمارى الأجنبى، توفر لتركيا المناخ الملائم نسبيا لتحقيق قسط مرتفع من التنمية الاقتصادية، وصلت فى زمن سيطرة الاتجاه الإسلامى السياسى منذ 2002 وصعود نخبة رجال الأعمال الجدد، إلى حدود «البلد الصناعى الجديد» Newlyــindustrialized. وهذا ما هو مهدد بالضعف فى الفترة الأخيرة تحت وطأة نزعة المغامرة الخارجية، و«الوحدانية السياسية» فى الداخل، وعواقبها المحتملة غير المأمونة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا.
أخيرا هناك «النموذج الإيرانى» الذى انتقل بعد الثورة الإيرانية الكبرى لعام 1979 من زمن «الشاهنشاهية» ذات الارتباط التبعى الوثيق بالغرب والولايات المتحدة والصلة الوثقى مع إسرائيل، ليتحول إلى النقيض، حيث محاولة بناء «منطقة نفوذ» على الصعيد الإقليمى فى مواجهة الإمبرياليتين الكبرى والصغرى. مع العمل على بناء سلسلة تحالفات ذات طابع ضيق فى عدة أجزاء من المنطقة العربية، فى وجه مقاومة من عدة بلدان عربية فى منطقة الخليج بالذات، بكل ما يعتور هذه المحاولة الإيرانية من انزلاقات وعثرات وأخطاء ثقيلة. هذه المحاولة تواجه نزعة عدوانية شديدة من الولايات المتحدة وإسرائيل، وصلت إلى حد ممارسة (الحصار بالخنق) بل والتهديد بالعدوان العسكرى بذريعة عدم السماح لإيران بالتحول إلى قوة نووية.
***
تلك إذن هى النماذج الأربعة السائدة على رقعة ما يسمى بالشرق الأوسط حيث يتبع الاقتصاد خطوط السياسة على الدوام. وهكذا ترتع إسرائيل، وتتذبذب تركيا بين الانتعاش والضعف، وتُخْنق إيران، ويُمنَع الوطن العربى من التقدم الاقتصادى بالمعايير الدولية المعاصرة، إلى حين.
فإلى أين نحن ذاهبون؟ هذا ما سنحاول استكشافه فى مقام غير بعيد.