صار بيتى موحشا بعد رحيل سيدة البيت. ثم صار ضحية أعمال الحفر لمد خطوط المترو. نصحتنى الغاليتان بالتنقل بين هذا البيت وبيت فى ضاحية. أخذت شقة فى الضاحية ضيقة ولكن قريبة من الخضرة ووسط كثير من الهدوء. أحلف أننى حاولت أن أعدل بينهما. تجاوزت مرات حين أقمت أياما أكثر من المقرر فى واحدة منهما لتتدخل على الفور عوامل خارجة عن الإرادة فتعيد تصويب الأمر. حدث عديد المرات أن أعود إلى بيت المهندسين، أفتح الباب وما إن أخطو خطوة أو اثنتين إلا ويتردد صدى ما يشبه أنين المتألم. خمنت وقتها، وصدق تخمينى أو هكذا راحت ظنونى. خمنت أن تكون بعض قطع أثاث البيت، وبخاصة تلك التى رافقتنى فى رحلاتى حول نصف الكرة الأرضية على امتداد ربع قرن ثم استقرت معى فى شقة القاهرة لربع آخر، خمنت أن هذه القطع لربما عاتبة هجرانى لها. تتألم وتكاد لوعة الشوق تخنق آهاتها.
***
كانت هذه التجربة فى سكنى الضواحى من التجارب النادرة فى حياتى. فى الواقع وقبل تجربتى الراهنة لم أسكن ضاحية لعاصمة إلا لمدة مائة يوم عندما نزلت شيلى دبلوماسيا بسفارتنا فى سنتياجو. اقتنيت خلال جولاتى حول العالم أثاثا أربع مرات. مرة فى نيودلهى لمدة شهرين نقلت على أثرهما إلى الصين فبيع بربع قيمته. مرة ثانية فى الصين، هناك اقتنيت أجمل ما أملك وأقربه إلى قلبى، أو بكلمات أدق وأصدق، هو كل ما أملك. مرة ثالثة اقتنيت الأثاث الذى فرشت به بعض غرف شقة المهندسين وما يزال بها مع إضافات دورية أو ضرورية، والمرة الرابعة كانت لشقة الضاحية استجابة لتوصية الغاليتين وتحت إشرافهما.
***
ثم هجم الكوفيدــ19 فتقرر إخضاعى لإجراءات تفرضها قواعد وضعتها الغاليتان لحمايتى من شرور هذا الفيروس. قضيت شهورا لا أعلم بالتأكيد عددها لا أخرج حتى لشراء حاجياتى الضرورية. زيارة الطبيب كانت استثناء. ابتعدت المسافات بينى وبين أصدقائى. بعضهم خضع لنصائح وإجراءات شبيهة. أيام الحماية، أو هى أيام الانعزال، بدأت ثقيلة وبطيئة. الكتابة، كالأيام، تسلل إليها ما يشبه الكسل. أيام أخرى وتدهور الكسل ليأخذ وضع اللامبالاة وهذه بدورها انحدرت إلى اللاشىء. حالة غريبة. ثقب أسود أمارس معه لعبة مقيتة، مارستها إكراها وقسرا أو عن جهل. أقضى معه النهار هو «يشفطنى» وأنا أقاوم. أظن أننى خسرت أمامه كل الجولات، إلا واحدة.
***
ذات صباح مشهود استيقظت متمردا. لن أتناول «الوجبة»، هذا المزيج من الشوفان والموز وشرائح تفاح مسلوق وملعقة بقايا مكسرات وزبيب وقطع من حبة تمر رطبة وملعقة زبادى وأخرى تحمل العسل الطبيعى، يضاف إليها جميعا نصف كوب من حليب دافئ. لم تجد الصانعة التى انضمت إلى عائلتى قبل عشرين عاما اسما يليق بهذا المزيج أحسن من كلمة «الوجبة». كان تناولها كل صباح منذ انضمامى، أو بالأصح ضمى، إلى جماعة الخاضعين للحماية، جزءا من سلسلة سلوكيات تؤكد الالتزام بقائمة إرشادات لا يجوز الخروج عن بند منها إلا بإذن من المستشار الطبى لقناة سى إن إن أو من الفريق الصحى المرافق للرئيس ترامب والمختلف معه دائما أو من المفوضية الأوروبية فى بروكسل. لا أمزح أو أبالغ. كنت فى الحقيقة لا أعرف على وجه الدقة من أكون ومن أتبع ومن يستحق منى الطاعة لأنه «أفهم» من الباقين. غمرنى لمدة غير قصيرة شعور أن الناس، كل الناس، فقدوا مع غزوة الكورونا هويتهم الوطنية مع هويات أخرى وراحوا «يتمشون» فى دخان كثيف. لا يرون أحدا ولا يراهم أحد إلا مجتمعين وغير متلامسين. جمعتنا زووم وأخواتها. زرنا مئات الناس فى بيوتهم. تجولت بالصمت فى العقول كما فى عناوين الكتب على الأرفف خاصة وأنها ربما صفت من أجل أن أراها.
خفت على نفسى. أكثر الناس، أو كل الناس، مثلى. لا يختلفون عنى إلا فى شىء واحد، هم من فصيل لا يتمردون. هم على الطريق نحو غموض أشد وما زالت أشياء منهم تتساقط. أما الأشياء فمنها مبادئ ومنها أخلاق، ومنها ذاكرات وعلاقات وثروات، ومنها ما هو أغلى الأشياء، منها الحب. أكثر الحكايات عن حب ينفرط وقليل جدا عن حب يولد وأقل الحكايات عن حب يلتئم. حتى الكتابة عنه، عن الحب أقصد، صارت عصية.
***
تعبت من المشى نحو لا هدف. تركت الناس تمشى وسحبت لنفسى كرسيا فى مقهى سمحت الإرشادات لصاحبه بأن يفرش موائد وكراسى على الرصيف. الكمامة ليست شرطا واجب النفاذ. قضيت هناك ساعات الغروب وبعض المساء أرقب الناس تمر أمامى كالوقت لا يتوقفون فلا سبب يدعوهم للتوقف، إلا شخصا منقبا اقترب من حيث جلست. اليد المغلفة بقفاز أسود امتدت نحو المائدة لتستند عليها واليد الأخرى تربت على كتفى وصوت ناعم يقطر حنانا «سعيدة بخروجك إلينا. أنا جارتك فى السكن». رأيت فى عينيها كلمات كثيرة وتردد قطعته بالرحيل المباغت. تركتنى لتعود إلى المسيرة نحو اللاشىء الذى ينتظرها وغيرها من الناس فى نهاية الطريق إن كانت له نهاية. بقيت وحدى على الرصيف أرشف الرشفة الأولى من شراب لم أعرف قبل هذا اليوم أنه موجود أو أن يوما سيأتى يصبح فيه شراب أمسياتى بهذا اللون والطعم والحجم. اخترته لأنه حسب إرشادات النادل المشروب المفضل هذه الأيام عند الناس. الناس حسب معلوماته تشرب، وأنا كدت أصبح مثل الناس أشرب، عصير الفول السودانى ممزوجا بالحليب وقطع الثلج وكثير من السكر.!
***
أنا متمرد على الحماية. لن يهدأ لى بال حتى أتخلص من قوائم الإرشادات وسخف السياسيين والموظفين لأعود فأعيش الأيام التى خططت أن تكون أحلى أيامى.