عندى سؤال افتراضى، للسياسيين والكتاب والإعلاميين الذين لا يكفون عن الحديث عن التنوير، بمعناه الدينى فقط، ثم يحصرون تهمة الظلامية الدينية فى الفكر الإسلامى الموروث وحده.
السؤال هو: إذا افترضنا أننا صحونا من نومنا غدا، ووجدنا الأرض انشقت، وابتلعت كل تنظيمات الإسلام السياسى، فهل ستحل كل مشكلات مصر، ولو بعد حين، ثم لا تلبث كل مشكلات العرب والعالم أن تحل؟!
الإجابة بالقطع هى لا، لأن جميع الفاعلين فى الصراع السياسى على أرض مصر، وفى عموم المنطقة العربية، والعالم الإسلامى (إلا نماذج محدودة) يخاصمون أو يتجاهلون روح العصر، أى ما يسمى بالحداثة، ومعناها ــ دون كثير من التنظير ــ تقديس حرية الفرد فى إطار القانون، والإيمان بوحدة الإنسانية رغم التنوع الثقافى..
وقد كان ذلك هو جوهر التنوير الأوروبى.
بعبارة أخرى لم يكن التنوير ثورة فكرية ضد السلطة الدينية ممثلة فى الكنيسة فقط، كما لم يكن ثورة ضد التمييز بين المواطنين على أساس مذاهبهم ومعتقداتهم الدينية فحسب، ولكنه كان فى الوقت نفسه، وبنفس القوة ثورة ضد الحكم المطلق، واستبداد الملوك، وامتيازات النبلاء، وانعدام المساواة أمام القانون.
لذلك فى الوقت الذى كان فولتير والموسوعيون يناضلون ضد «العار» ممثلا فى اللاهوت المسيحى، واضطهاد غير المؤمنين به، فقد كانوا يدافعون بنفس القوة عن حرية الرأى فى مواجهة السلطة السياسية، وكان مونتسكيو وروسو وغيرهما يناضلون دون هوادة ضد الحق الإلهى فى الحكم، والطغيان السياسى، فيضع الأول نظرية الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية، والتشريعية والقضائية فى الدولة، ويؤصل الثانى نظرية العقد الاجتماعى، فيمهد الجميع للثورة الفرنسية الكبرى.
الآن ماذا يفعل التنويريون عندنا؟
إنهم يبدون وكأنهم لا ينظرون إلا بعين واحدة، هى التى ترى الظلامية الدينية، وكأن تنظيمات الإسلام السياسى هى التى تحكمنا منذ تأسست الدولة الوطنية الحديثة، وهى بالتالى التى صنعت كل الكوارث التى يعانى منها مواطنونا، ومجتمعاتنا فى السياسة والاقتصاد، والتعليم، والمرافق، والخدمات، وفى المكانة الدولية، والأمن القومى، والعلاقات مع سائر العالم، مع الاعتراف بأن هذه التنظيمات هى حقا مصدر للكثير من الكوارث فى الداخل وفى الخارج، وستكون مصدرا لكوارث أكبر لو أنها تولت السلطة، وقد جربنا فى مصر فعلا عينة من ذلك.
إذن فإن أمانة الفكر، ويقظة الضمير، وموضوعية التحليل تقضى بمناهضة ظلامية الاستبداد والرجعية السياسية بنفس القوة التى يجب بها مناهضة ظلامية الدين السياسى، لأن الاستبداد والرجعية، يصادران أيضا حرية الضمير، والرأى، ويزيفان الوعى العام، ويميزان بين المواطنين على أساس الخضوع للسلطة أو نقدها، ولا نقول معارضتها، وأكثر من ذلك فإنهما اللذان جلبا للوطن والمواطنين كل تلك الكوارث التى سبقت الإشارة إليها، حتى فى الوقت الذى كان تحدى جماعات الاسلام السياسى لهذه النظم فيه فى أقل مستوياته، أو ربما كان منعدما تقريبا، كما كان الحال منذ منتصف خمسينيات القرن الماضى، وحتى منتصف السبعينيات من ذلك القرن، بل لعلى أضيف أنه لولا النكبات والإخفاقات الكبرى لتلك النظم الحاكمة، لما أفاقت جماعة الإخوان المسلمين من ضربات النظام الناصرى لها فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وبشىء من التفصيل لولا هزيمة 1967 المخزية أمام إسرائيل، ولولا التسلط والقمع، والتعذيب فى السجون، لما ولدت تلك الجماعة من جديد، ولما تفرعت منها جماعات أشد تطرفا وعنفا فى سبعينيات القرن الماضى، ولولا تعثر التنمية، وتدهور سياسات العدالة الاجتماعية، مصحوبا بشيوع الفساد السياسى والإدارى، فى سياق من تدهور المكانة الإقليمية والدولية، لما اكتسبت هذه الجماعات كل هذا الزخم الشعبى الذى بوأها مركز القطب الثانى فى الصراع السياسى مع النظم الحاكمة فى الداخل، ومع القوى الدولية الكبرى فى الخارج.
إذن فلا مسوغ أخلاقيا أو فكريا أو علميا لتبرير إعادة إنتاج نظم الحكم القديمة لمجرد كراهية التنظيمات الدينية السياسية.
.......
لكن مغالطات التنويرين عندنا لا تتوقف عند هذا الحد، فهم لا يكلفون أنفسهم الاعتراف والتعريف بأن حركة التنوير الأوروبى لم تنتصر بين ليلةو ضحاها، ولا بين سنة والسنة التالية لها، وبأن التنوير لم يخلص الفكر والسياسة الأوروبية (والأمريكية أيضا) من المعتقدات والممارسات الظلامية مرة واحدة والى الأبد.
ولمن يحبون من بيننا أن يعتبروا أن التنوير الأوروبى بدأ بالإصلاح الدينى البروتستانتى، فإنهم لا يقولون لقرائهم ومستمعيهم إن الإصلاح الدينى الذى بدأ عام 1517، تسبب فى حروب داخل الدولة الواحدة وبين الدول تواصلت بلا انقطاع حتى عام 1648، وأن التحيزات الدينية الموروثة من تلك الفترة لاتزال تعمل آثارها حتى الوقت الحالى، ولكن فى إطار ديمقراطى سلمى.
أيضا لايقول التنويريون عندنا إنه فى الوقت الذى كان فيه كانت وليسينج فى ألمانيا يدعوان إلى الوحدة الإنسانية، كان هيجل ونيتشه يؤسسان للقومية المتطرفة، بل وللعنصرية، والعبرة هنا هى أن التنوير الأوروبى لم ينفرد هناك لا بالساحة الفكرية ولا بالساحة السياسية، ولكن كان على الجميع أن يكتشفوا ثم يؤمنوا، ثم يلتزموا بالصراع السلمى الديمقراطى.
ويتصل بمغالطات التنويرين عندنا أيضا، وطبقا لمنهجهم فى النظر إلى كل قضية بعين واحدة حصرهم ما يسمونه بالظلامية الدينية فى الفكر الإسلامى الموروث.
خذ مثلا ذلك الجدل الذى دار حول معتقدات المسلمين وتفسير النصوص الدينية الإسلامية المتعلقة بالمسيحية والمسيحيين من جراء الجريمة الإرهابية الأخيرة فى الكنيسة البطرسية، فقد كانت محصلة هذا الجدل تعنى أنه لولا اعتقاد المسلمين أن المسيحين هم الضالون المقصودون فى سورة الفاتحة، لما كانت هذه الجريمة قد وقعت، وكأن هذه السورة وتفسيرها لم يوجد إلا اليوم، مع الاعتراف بما حدث فى عصور مختلفة من التاريخ الإسلامى من اضطهادات لغير المسلمين، بل وللمسلمين أنفسهم من مذاهب مختلفة عن مذهب الحاكم.
ثم تطور الجدل إلى المطالبة بإعادة النظر فى تفسير القرآن (لهذا السبب وحده)، فالمطالبة باستبعاد هذه النصوص، وتفسيراتها من المقررات الدراسية.
ورغم أنه يجب من حيث مراجعة كثير من تفسيرات النصوص الإسلامية فى ضوء التطورات السياسية والاجتماعية والعلمية طبقا لمبادئ الاجتهاد والتأويل، فإن تحميل النص وتفسيره وحدهما مسئولية جريمة الكنيسة البطرسية هو مغالطة دعائية فجة ورخيصة، لأن منطق كل عقيدة وأى عقيدة دينية يعتبر أنها هى وحدها الصحيحة، وأن غيرها ليس صحيحا، أو فى أحسن الأحوال ليس صحيحا بالكامل، وليس فى ذلك ضير ما ظل الأمر اعتقادا فقط، ولم يتحول إلى إكراه للآخرين، أو إلى انتقاص من حقوقهم الانسانية والسياسية، والقانونية.
فالمسيحية بدورها تعتبر اليهود كفارا لأنهم لا يؤمنون بالسيد المسيح، وتعتبرهم مجرمين لأنهم حرضوا على صلبه، والمسيحية تعتبر المسلمين ضالين كذلك، واليهودية تعتبر المسيحين والمسلمين كفارا ملعونين، ولا لوم فى ذلك على أحد، والحكم لله يوم القيامة «يفصل بينهم فيما هم فيه مختلفون».
أتذكر حوارا مع قداسة البابا الراحل شنودة الثالث – فى دير الأنبا مقار بحضور الأستاذ رجب البنا والدكتور أسامة الغزالى حرب وآخرين ــ حول حديث خطباء الجمعة المسلمين عن كفر وضلال عقيدة المسيحين، إذ قلت لقداسته يومها إن التعامل مع هذه المسألة يجب أن يسير فى اتجاهين: الأول يخص المسلمين، وهو القضاء على ظاهرة التدين الغوغائى الاحتفالى التى تشيع عندنا فى مصر، وليس لها نظير فى أى من البلدان الاسلامية، حيث يضطرب عويل مكبرات الصوت مع كل آذان، وفى صلوات الجمعة، مع ما فى ذلك من اغراء لبعض الخطباء بالشعبوية، و(لكننا لم نفعل بعد، بل وانضمت بعض القنوات الفضائية التليفزيونية إلى موكب الغوغائية هذا).
أما الاتجاه الثانى فيخص الأقباط، وسائر المسيحيين، إذ يجب أن لا ينسوا أنهم بدورهم يرون اليهود والمسلمين، وأتباع الكنائس الأخرى ضلالا، أو كافرين، لكن الفارق هنا هو أن جميع العبادات الإسلامية علنية بطبيعتها، فى حين أن العبادات المسيحية تحتوى ــ منذ عصور الاضطهاد اليهودية ثم الرومانية ــ على طقس سرى، يسمى عظة المؤمنين، حيث يبدأون بالتأكد من عدم وجود غير المسيحيين بينهم، فيستطيعون الوعظ بأن المسيح قال إنه سيقوم بعده أنبياء كذبة، فلا تصدقوهم، وأن مصر شعب الرب وستعود إلى الرب.. وهكذا.. ثم أضفت فى الحديث إلى البابا شنودة، قائلا: إن الفروق الاعتقادية بين الأديان هى من طبيعتها، ولولاها لكان هناك دين واحد، وكذلك فهناك فروق اعتقادية أيضا بين الفرق والمذاهب فى الدين الواحد، وإذن فليس فى هذا ما يقلق، ولكن ما يقلق هو اتخاذ هذه الفروق، سببا للتعريض، وأساسا للتمييز، أو لانتقاص من حقوق المواطنة، وهذا ما يجب مكافحته حقا، ويومها وافقنى البابا رحمه الله على كل كلمة.
ثم إن تحميل النص وتفسيره مسئولية جريمة البطرسية وغيرها من الجرائم الإرهابية، بل المسئولية عن الإرهاب ككل هو أيضا مغالطة، لأنه يتجاهل الأسباب الأخرى الأكثر تسببا فى الإرهاب، والتى تتلخص وبتركيز شديد فى الفقر والجهل والشعور بالظلم والاغتراب فى الداخل، وبالمهانة القومية أمام أعداء الخارج خاصة الصهيونية، إلا فلو كان الإرهاب مصدره النصوص الدينية فقط، لما كان العالم عرف إرهابا قوميا، أو يساريا.
مرة ثالثة حتى لو اختفى «الإسلاميون» من على ظهر الأرض، ولكن بقى الاستبداد والظلم والاغتراب، لما اختفى الارهاب، ولما رعى الذئب مع الغنم.