نشرت جريدة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى... نعرض منه ما يلى:
لا تمر الأسابيع انطلاقا (من 17 ديسمبر إلى 14 يناير) دون أن يسترجع التونسيون/ات أحداثا وصورا وكلمات وشعارات بقيت عالقة فى الأذهان، ترتبط عند البعض بتاريخ اندلاع الاحتجاجات فى مدن اعتبرت على الهامش، وتُختزل عند البعض الآخر فى مواجهة آلاف المتظاهرين لقوات الأمن أمام وزارة الداخلية وأدت فى النهاية، إلى «فرار المخلوع». وفى المقابل يتذكر آخرون بكل ألم ومرارة، نهاية عهد حقق لهم مجموعة من الامتيازات...
وإذ تتعدد مواقف التونسيين/ات من تاريخ الحدث (17 /12 أو 14 /1) وتسميته (ثورة، انتفاضة، انتكاسة...) وتقييم نتائجه على حياتهم فإن الثابت هو انقسامهم حول توصيف ما حدث، واختلافهم حول السردية الأكثر تعبيرا عن طموحاتهم أو خيباتهم... وليس الاختلاف إلا حجة على أن عملية تشكيل «ذاكرة الثورة» معقدة وديناميكية ولا تكاد تستقر على حال، وعلى أن مشاعر التونسيين تجاه ما حدث تختلف هى أيضا من فترة تاريخية إلى أخرى فتتراوح بين الإحساس بالفخر والاعتزاز، والشعور بالإحباط والسخط...
فلئن ركز التونسيون فى السنوات الأولى من التحول الديمقراطى على استرجاع أحداث من الماضى البعيد (الدولة البورقيبة) و«العهد النوفمبرى» توضح أشكالا من السلطة القهرية وتُتخذ دليلا لإقناع القوم بأهمية الإصلاح والتغيير أو آلية لعقد المقارنات ــ فإنهم صاروا فى السنوات الأخيرة التى عرفوا فيها هشاشة الدولة ميالين إلى الإشادة بالأنظمة السابقة التى رسخت «احترام» مؤسسات الدولة وحققت «هيبة» الرئيس والحكومة والمسئولين.
واللافت للانتباه أن المواقف صارت متباينة بشأن تقييم شخصيات الحكام القدامى. فبعد أن غُيبت صورة «بن على» التى اقترنت فى الأذهان بالقهر والظلم والفساد... واستبدلت بصور «الحكام الجدد» أو صورة بورقيبة عند البعض، ها هى صورة بن على تُطل علينا من جديد على صفحات الفيسبوك فلا يتوانى البعض عن إبرازها للاستدلال على نجاح بن على فى توفير «الأمن والأمان».
تشير هذه الأمثلة وغيرها إلى أن التونسيين بصدد إعادة تقييم ‹الدكتاتوريات› من مناظير مختلفة تقوض، فى الواقع، مبدأ الإجماع والتوافق حول رؤية أحادية لتاريخهم السياسی. فما اعتقد لسنوات أنه من اللامعقول (كأن يمجد الواحد فترة بن على أو يشتم الثورة ومن أشعل فتيلها...) صار اليوم لدى البعض مبررا ومقبولا ومحملا بدلالة إيجابية. وهذا التحول فى البنية الذهنية حرى بأن يدرس لنتبين كيف تخضع الذاكرة/ات لعمليات بناء وإعادة البناء مختلفة، وكيف ترتبط سياسات الذاكرة بالهويات والأيديولوجيا والمصالح، وكيف تتلون وفق الجندر والسن والطبقة والمستوى الثقافى والعلاقة بالسلطة... وكيف تؤثر الأزمات السياسية والاقتصادية والقيمية وغيرها فى فعل التذكر فتجعلنا ننتقى أحداثا وصورا نسترجعها ونوظفها فى سياق مختلف لنشبع بها حاجة ملحة نشعر بها.
ونحن إذ نتصرف فى ما «أرشفناه» نعيد، فى الواقع، تأسيس علاقتنا بالماضى بطريقة تبدو لنا أكثر تلاؤما مع السياق الحاضر. فننجز قطيعة مع أحداث وتمثلات وصور أو نهمش بعض الأحداث أو نبالغ فى تقييم فترة تاريخية أو نميل إلى محو شخصيات من الذاكرة الوطنية أو على العكس من ذلك نسعى إلى أن يمتد الماضى برموزه وأحداثه فيسطو على حاضرنا ويوجه رؤيتنا للواقع فنعيش «اليوتوبيا».
اليوم ونحن نشارف على إتمام عشرية من الزمن تؤرخ لحدث سياسى اجتماعى غير حياتنا وأربك وعينا وأحدث تشويشا فى بنى عديدة يحق لنا أن نعيد النظر فى سياسات الذاكرة وسياسات النسيان ونتأمل فى ميكانزمات «الفلترة» mémoire filtre الأيديولوجية والنفسية... وأن نمحص فى الأدوار التى اضطلع بها فاعلون فى السياسة والإعلام والمجتمع المدنى وغيرهم حتى يشكلوا تاريخ الثورة التونسية ومسار التحول الانتقالى. ومهما تعددت محاولات التحكم فى الذاكرة والتاريخ ورسم السياسيات والجنوح نحو المراقبة والتسييج فإن حالات الانفلات والاختراق والتمرد و... تعد فى تقديرنا، أشكالا من المقاومة لبنى الهيمنة.