يناير الثانى .. الصراع على المستقبل - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 4:22 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يناير الثانى .. الصراع على المستقبل

نشر فى : الإثنين 23 يناير 2012 - 9:25 ص | آخر تحديث : الإثنين 23 يناير 2012 - 9:25 ص

فى مقدمة المشهد السياسى ثلاثة أطراف تتناقض حساباتها فى اليوم الموعود وما بعده.

 

 طرفان لديهما مخاوف وهواجس أن تفلت اللعبة عن قواعدها.. وطرف ثالث ضد اللعبة برمتها وليس لديه ما يخسره.

 

المجلس العسكرى ومكتب الإرشاد فى جانب بتصورات متباينة.. والشباب الغاضب فى جانب آخر لديه تصميم وأمامه ألغام.

 

العسكرى تتناقض تصرفاته فى الطريق إلى يناير الثانى، فهو مستعد لأن يذهب إلى أبعد مدى لتصحيح صورة المؤسسة العسكرية، التى تضررت بصورة فادحة يصعب ترميمها فى أى مدى منظور، وهذه الصورة السلبية باتت شديدة الوطأة على سلامة القوات المسلحة.. ولكن وسائله للتصحيح تخذله وإخفاقاته فى المرحلة الانتقالية تطارده.

 

خططه للاحتفال بثورة يناير تلخص المأزق الذى يجد نفسه فيه محاصرا ومعزولا.. يدرك أن أوضاعه لا تسمح بأن يقترب فى هذا اليوم من التحرير ومليونياته، ولكنه لا يريد فى الوقت ذاته أن يغادر المشهد تماما.

 

خطته الرئيسية التوسع فى مظاهر الاحتفال عبر وسائل الإعلام، موسيقى وغناء وإشادة بالثوار الذين صنعوا «الثورة المجيدة»!، وأن يستخدم أجهزة الدولة وأدواتها لحشد كبير فى استاد القاهرة، أصوات وأضواء ومباراة كرة قدم. مشكلة هذه الخطة أنها تكرس العزلة، ومحكوم على مقاصدها بالفشل المسبق، وتعيد إلى الذاكرة اجواء مهرجان سياسى مماثل فى الاستاد ذاته دعا إليه الحزب الوطنى، وتصدر منصته أمينه العام «صفوت الشريف»، عند سقوط بغداد فى مارس (٢٠٠٣)، بينما كانت قوات الأمن تطارد بالهروات والقنابل المسيلة للدموع عشرات الآلاف من المتظاهرين فى ميدان التحرير.

 

تناقض الصور والمقاصد فى الحالتين واحد. التفكير نفسه يتكرر فى أحوال متغيرة. وهو فقير فى خياله ومطعون على مقاصده، ويلحق أضرارا إضافية بهيبة واحترام الجيش، وهو بتاريخه وأدواره ومعاركه فى العصور الحديثة جيش الشعب، ولا يصح أبدا أن تلجأ قياداته لاستنساخ الأفكار والخطط ذاتها التى اعتمدها النظام السابق وحزبه المنحل!.

 

فى اليوم الموعود رايات سوداء تسود واستدعاء لصور الشهداء والمصابين ووقائع التنكيل بالمتظاهرين فى ميدان التحرير، بينما الصور الرسمية تغض البصر عن الغضب ودواعيه والثورة واهدافها التى لم تستكمل.

 

الأدهى أن بعض المنظمين لاحتفالات الاستاد لا يعترفون بأن هناك ثورة قامت، وأن نظاما سقط، وأن رئيسه يحاكم، وبعض انفلاتات اللسان تطرح التساؤلات عن حقيقة الالتزامات. فقد عرض فى غمرة الاستعدادات لاحتفالية العسكرى على مطرب مصرى، غنى للثورة وشهرته تسبقه إلى أجيال الشباب، أن يطل فى هذا اليوم على المصريين من استاد القاهرة، سأل ببراءة فنان: «لماذا لا نغنى فى ميدان التحرير؟».. وكانت الإجابة صادمة من مسئول يشارك فى تنظيم المهرجان: «خايفين الريس يزعل لو احتفلنا فى الميدان »!

 

التصريح فلتة لسان من مسئول أدنى، فالتعقيدات السياسية لا تسمح بظهور عام للعسكرى بميدان التحرير فى هذا اليوم، بغض النظر أن «يزعل» أو «لا يزعل» الرئيس السابق.. ولكن فلتات اللسان تذكى الشكوك وتجدد التساؤلات عما إذا كان إخفاق العسكرى فى إدارة المرحلة الانتقالية يعود إلى قلة خبرته السياسية، أم عن سياسة مقصودة لإجهاض الثورة والوقوف بتطلعاتها عند سقف إطاحة رأس النظام. هذه التساؤلات تضغط وتلح على أجيال الشباب داعية إلى تصعيد المواجهات.. ومشكلة العسكرى أن الاتهامات الخطيرة تحاصره والاجابات المقنعة تعوزه. وفى اختلاط الصور دخل دفاع مبارك على الخط ذاته محملا المجلس العسكرى مسئولية قتل المتظاهرين فى احداث الثورة منذ ٢٨ يناير. وهذه اتهامات خطيرة لا يصح الصمت عليها، وتتعدى رسائلها قاعات المحاكم إلى ميادين السياسة.

 

اداء العسكرى المرتبك يغرى بالاستخفاف، وقد وصلت التداعيات السلبية إلى صلب المؤسسة العسكرية، وبدأ ضباطها يجهرون بالضيق من تلك الاجواء معتقدين ان هناك من يحاول توظيف اخطاء المرحلة الانتقالية للاجهاز على المؤسسة الوطنية العسكرية وإذلالها بصورة لا تمكنها مستقبلا من اداء ادوارها فى حماية الامن القومى.

 

فى الطريق إلى يناير الثانى يجد العسكرى نفسه محشورا فى زاوية بين الطرفين الرئيسيين الآخرين، فالشباب الغاضب يطلب رحيله فورا من المشهد السياسى وعودته إلى ثكناته.. تتحكم فيه مشاعر الثأر لسقوط شهداء وضحايا أكثر من حسابات سلامة البدائل قبل حسم الخيارات.. وجماعة الإخوان المسلمين على الطرف الآخر من الزاوية تتحرك بحذر، عين على العسكرى واعتبارات تقاسم السلطة وعين على الشباب خشية انفلات اللعبة عن قواعدها ومصالحها فيها.

 

طرف غاضب يضغط على العسكرى، ويصعد الحملات عليه بخيال جديد يتبنى «الأسود» لونا و«التابوت» رمزا ليناير الثانى.. وطرف حذر يحاول أن يطمئن العسكرى إلى وجوده فى ميدان التحرير، يؤمن التفاعلات فيه ويضمن وضع سقف لها.. العسكرى لا يطمئن إلى نوايا الإخوان، ولكنه مندفع بالحقائق على الأرض إليهم، والإخوان بدورهم لديهم شكوك وهواجس من نوايا العسكرى، ويحاولون توظيف غضبة الشباب فى موجتها الثالثة لتقليم اظافره وحصد مكاسب جديدة.

 

طرف يندفع بنبل مقاصده إلى المواجهة، ولا تساعده تصوراته أن يحصد ثمار تضحياته.. وطرف يرقب بحذر ويحصد بانتظام النتائج وحده، دون أن يدفع مرة واحدة تكاليفها.

 

إنها الحسابات والخيارات المتناقضة على مقدمة المشهد السياسى فى يناير الثانى.. الشباب يريدونها موجة ثالثة للثورة تنهى أدوار العسكرى وتجدد روح الميدان، لهم تحفظات على الإسلاميين وطبيعة البرلمان المنتخب، وقد تداهم التحفظات اصحابها فى الصراع على المستقبل بأسرع مما يعتقدون.

 

فى بعض العبارات منسوبة لأصحابها مما يكشف حقيقة التصورات للدولة وطبيعة السلطة فيها، فقد كرر مرشد الإخوان المسلمين الدكتور «محمد بديع» أكثر من مرة عبارة « اتحاد ملاك مصر»، كأن مصر بناية يقوم على ادارة شئونها مأمور، وهو فى الاحوال المصرية الجديدة المرشد نفسه!.. المعنى ذاته بعبارة اخرى أكده المشير الراحل «عبدالحليم أبوغزالة» قبل سنوات لبعض مقربيه، احتجاجا على توريث الحكم لجمال مبارك: «ابن البواب»، قاصدا ان مصر بناية مؤتمن الجيش عليها، اختار مبارك حارسا، ولكن الاخير قرر ان ينقل صلاحياته لابنه بدلا من المؤسسة التى صعدت به للسلطة العليا. فى التعبيرين ما يدعو للتأمل والتدبر بين نظريتى «البواب» و«المأمور».. وما تحتاجه مصر الآن نقلة نوعية مختلفة فى مفهوم الدولة، والا تستبدل «مأمور الاتحاد» بــ«ابن البواب»!

 

فى أوضاع السيولة السياسية يمكن أن تفلت الأحداث وتنقلب المعادلات، والإخوان ليس لديهم ادنى استعداد لمغامرة على أبواب السلطة وجوائزها.. يؤكدون استعدادهم الكامل للتعاون مع العسكرى وحكومة الجنزورى فى الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية، ولكنهم فى الوقت ذاته يضغطون لتعديل محدود فى تلك الحكومة يلبى بعض طلباتهم، إلى حين عرض طلبات أخرى. إنها لعبة النفس الطويل، وتعديل المطالب والتوسع فيها بمقتضيات الظروف وتحولاتها.. وفى الظروف المستجدة ما يستدعى مكاسب جديدة فى خزائنها السياسية.

 

من البدائل التى يجرى الحديث عنها بصوت مسموع، وقد يتردد صداها فى التحرير، تولى رئيس مجلس الشعب المنتخب رئاسة الجمهورية، وهى فكرة تناقض الإعلان الدستورى وجدوله المعلن، وتستدعى فى الوقت ذاته الإعلان عن شغر منصب رئيس الجمهورية، والدعوة إلى انتخاب رئيس جديد خلال ستين يوما، على ما يقضى بذلك دستور (١٩٧١). وهو بديل ينزع صلاحية مجلس الشعب فى تشكيل هيئة تأسيسية تضع دستورا جديدا، والعودة فورا إلى الدستور الذى أسقطته الثورة.. وهو يعنى بقراءة أخرى إنهاء الشرعية الثورية، التى جرى إقصاؤها فعلا بخريطة طريق صممت لصالح تيار سياسى بعينه، دون أن تكون لدينا شرعية دستورية تكرس القيم والمبادئ والأهداف التى تبنتها ثورة يناير.. ومن اللافت أن الطرف الذى يدعو للجمع بين سلطتى الرئاسة والتشريع يرفض الدعوة، مدركا أن عواقبها لا تساعده على الامساك بالسلطة التى تعنى حقائقها، لا اوهامها ،ان تسند شرعيتها المؤسسة العسكرية، وتنفذ تعليماتها المؤسسة الامنية.. ولكنه مستعد أن يوافق على بديل آخر يدعو إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد قبل وضع الدستور والاستفتاء عليه، فهذا البديل يساعد على تقاسم السلطة بأسرع وقت ممكن، رغم أنه يناقض الإعلان الدستورى وجدول الأعمال المقرر.

 

إنها حسابات السياسة العملية والمصالح فيها لا اعتبارات تأسيس نظام سياسى جديد له صلة بالثورة وأهدافها. وهذه هى المعضلة الحقيقية التى تواجه الاجيال الشابة فى يناير الثانى. فالعنوان الرئيسى للموجة الثالثة من الثورة رحيل «حكم العسكر». وهو عنوان يلخص الغضب وعنفوانه، لكنه لا يكفى وحده لحسم الصراع على المستقبل، وهو صراع سوف يمتد، والشباب الغاضب الرقم الأصعب فيه، رغم الإقصاء والتهميش.