تتعاقب الاتهامات الأوروبية لواشنطن، بتعمُد إطالة أمد الحرب الأوكرانية؛ كونها المستفيد الأكبر من تداعياتها المأساوية. فأخيرا، أظهرت دراسة لمركز«خدمة أبحاث الكونجرس»، انحسار أصداء تلك الحرب،على الاقتصاد الأمريكى، جراء تواضع وشائج واشنطن التجارية مع موسكو وكييف. فى الوقت الذى يتعاظم التهافت الأوروبى على النفط والغاز، كما السلاح والذخيرة، من لدن الولايات المتحدة. وغير بعيد، أكدت دراسة لمركز «الدراسات السياسية والإستراتيجية» بواشنطن، تعاظم معاناة الأوروبيين، على مختلف الصعد، مقارنة بنظرائهم الأمريكيين، بجريرة الأزمة الأوكرانية،وما تستتبعه من دعم مكثف ومتواصل لكييف.
بدعوى الاستثمار فى الأزمة الأوكرانية، توالت الإدانات الأوروبية للأمريكيين. فبينما كان حلفاؤهم الأوربيون يتلقون الغاز الروسى بسلاسة، وأسعار معقولة، وفق خطط آمنة وطويلة الأمد؛ باتوا يتحصلون اليوم على الغاز الأمريكى المسال بكلفة باهظة. حتى ناشد مسئولون أوروبيون واشنطن، خفض الأسعار، التى تناهز أربعة أضعاف نظيرتها داخل أمريكا. معربين عن قلقهم من احتدام الغضب حيال الدعم الأمريكى لأسعار الطاقة محليا، فى وقت يفضى ارتفاعها فى القارة العجوز، إلى تفاقم كلفة المنتجات الأوروبية، بما يقوض قدرتها التنافسية، ويهدد بتدهور الصناعة الأوروبية. كما ينذر ذلك «المنعطف التاريخى»، حسب رسميين أوروبيين، بتأليب الرأى العام الأوروبى ضد الدعم العسكرى لأوكرانيا، والتحالف عبر الأطلسى.
وسط تراجع مؤلم، كابده الاقتصاد الأمريكى، خلال العام المنصرم، شكل قطاعا الطاقة والسلاح، استثناء لافتا. ففيما يتصل بالطاقة، أمست الولايات المتحدة رابع أكبر مُصدر للنفط الخام، وثانى أكبر مُصدر للغاز الطبيعى، عالميا. لاسيما بعد حظرها استيراد الغاز الطبيعى المسال، والنفط، والفحم من روسيا، فى مارس الماضى؛ واتفاق الرئيس بايدن مع الأوربيين على زيادة صادرات الطاقة الأمريكية إليهم بواقع 15%. وبناء عليه، سجل متوسط صادرات النفط الخام الأمريكى مستوى قياسيا، بلغ ثلاثة ملايين و400 ألف برميل يوميا. فيما ناهزت صادرات البنزين والديزل، ثلاثة ملايين برميل يوميا. لتتجاوزالصادرات الأمريكية من النفط ومنتجاته، مستوى الواردات، للمرة الأولى، منذ الحرب العالمية الثانية. كذلك، أصبح الاتحاد الأوروبى، الذى يستورد 90% من احتياجاته الطاقوية، أكبرسوق لصادرات النفط الأمريكى. ومقارنة بـ8.3 مليار دولار عام 2021، قفزت عائدات بيع الغاز الأمريكى لأوروبا، إلى 35 مليارا، بنهاية سبتمبر الماضى. وفى يناير 2022، ارتفعت صادرات الغاز المسال الأمريكى إلى أوروبا عند 6.5 مليار قدم مكعبة يوميا، متجاوزة نصف وارداتها. فلقد جعلت الأزمة الأوكرانية من الولايات المتحدة موردا موثوقا للغازإلى أوروبا، بعدما حققت واشنطن الاستغلال الأمثل لمواردها وبنيتها التحتية الطاقوية، كتشغيل محطات تصدير الغاز الطبيعى المسال الثمانية، بكامل طاقتها لأول مرة، لترفع قدرتها التصديرية عند 13.3 مليار قدم مكعبة. ناهيك عن تنفيذ مشروعات جديدة، تتضمن إنشاء 14 محطة إضافية للغاز المسال. وقد أدى ارتفاع صادرات الطاقة الأمريكية للقارة الأوروبية بواقع 20%، إلى زيادة، غير مسبوقة، فى عائدات شركات الطاقة الأمريكية، التى جنت مداخيل نقدية تشغيلية بقيمة 200.24 ملياردولار. فيما اعتبره الرئيس، بايدن، «غنيمة حرب»، و«تربح من الأزمة»، يستوجبان فرض ضرائب إضافية على تلك الشركات، ما لم تستثمر تلك الأرباح الهائلة فى مضاعفة الإنتاج النفطى، توطئة لتقليص أسعار مشتقاته بالنسبة للمستهلكين.
أتاحت الأزمة الأوكرانية لواشنطن بلوغ مرادها، المتمثل فى استدامة الاستقلالية الطاقوية، وتأبيد الهيمنة على أمن الطاقة العالمى. فلم تسهم طفرة صادرات الغاز المسال، فى إنعاش الاقتصاد الأمريكى فحسب، بل ساعدت أيضا على تعزيز الأمن القومى، ودعم السياسة الخارجية للولايات المتحدة. إذ أدى تزامن الحرب الأوكرانية، مع ثورة الغاز والنفط الصخريين، إلى تحقيق شركاتهما، أرباحا خيالية. كما أجهض مخططات موسكو للتحكم بأمن الطاقة الأوروبى، ومكَن الأمريكيين من استخدام النفط والغاز سلاحا جيوسياسيا. كذلك، تسنى لواشنطن إنهاء تهديد مشروع خط أنابيب الغاز بين «نورد ستريم 2»، الذى كان يستهدف مضاعفة صادرات الغاز الروسية لأوروبا وجعلها أكثر تنافسية وموثوقية، بما يكرس التبعية الطاقوية الأوربية لموسكو. حيث أجهز الغزو الروسى لأوكرانيا عليه، بعدما حمل برلين وبروكسيل على وقف إصدار تصاريح تشغيله، نهاية فبراير الماضى.
على وقع الارتفاع الجنونى فى أسعار النفط والغاز المسال، ليمثل 40% من تكاليف التشغيل؛ تفاقمت كلفة الإنتاج والتصنيع داخل أوروبا، خصوصا فى الصناعات كثيفة الطاقة، مثل الأسمدة والصناعات الثقيلة. ما ينذر بتوقف العديد من خطوط الإنتاج، وهروب الصناعات، والاستثمارات، ورءوس الأموال، إلى الولايات المتحدة. حيث تتوافر إمدادات الطاقة المحلية الزهيدة، والأعلى موثوقية. فضلا عن الدعم الحكومى للشركات، عبر قانون خفض التضخم، الذى يقدم إعانات للشركات التى تستثمر فى الطاقة المتجددة، فيما تشكل الولايات المتحدة قاعدة مثالية للتصدير. الأمر الذى يضع أوروبا على شفا انكماش فرص العمل، وارتباك الأمن الغذائى، وتغيير نمط الحياة، بما يفاقم احتمالات تفجرالاضطرابات الاجتماعية.
أما بخصوص مبيعات الأسلحة، فقد أفضت الحرب الأوكرانية، وجنوح الدول الأوروبية لتعزيز قدراتها الدفاعية فى مواجهة التهديدات الروسية، تزامنا مع تكثيف دعمها العسكرى لكييف، إلى زيادة الطلب الأوروبى على المنظومات التسليحية الأمريكية. إذ يتطلب إعادة ملء مخازن الأسلحة المتطورة الأوروبية سنوات، فى ظل تنامى عجزالطاقة، وتعاظم مشكلات سلاسل الإمداد، وتعثر إنتاج الرقائق الإلكترونية. وقد أكدت دراسة صادرة عن «معهد ستوكهولم الدولى لبحوث السلام»، ازدهار مشتريات الأسلحة الأوروبية بنسبة 19%، بعدما أضحت القارة العجوز بؤرة ساخنة. وبعد ثلاثة أشهر على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أنهت فنلندا والسويد، عقودا من الحياد العسكرى، بتقديمهما طلبا مشتركا للانضمام إلى الحلف الأطلسى. أعقبتاه بإبرام صفقات تسلح نوعية مع واشنطن بمليارات الدولارات. الأمر الذى دفع البنتاجون لوضع خريطة طريق، تستهدف تسريع مبيعات الأسلحة للأوروبيين. ونتيجة لذلك، سجلت سلة أسهم كبريات شركات إنتاج الأسلحة الأمريكية ارتفاعا متواصلا بنسبة 30%. كما عزز الدولار الأمريكى قوته عالميا، إذ اعتبر مستثمرون كُثر، الولايات المتحدة، ملاذا ماليا، أفضل موثوقية من منافسيها وحلفائها.
بتدخلهم العسكرى فى أوكرانيا، للجم الزحف الأطلسى صوب تخومها، قدم الروس أوروبا، على طبق من ذهب، لواشنطن، التى تأبى إلا أطلستها. حيث تستثمر إدارة بايدن فى تنامى المخاوف الأوروبية من الطموحات الاستراتيجية للدب الروسى، بغية تكثيف تموضعها العسكرى فى ربوع القارة العجوز، وتعزيز نفوذها فى الضفة الشرقية للأطلسى. وتوسيع حلف الناتو، عبر استقطاب المزيد من الأعضاء الأوروبيين المتاخمين لروسيا. فقبل اندلاع الحرب الأوكرانية، لم يكن عدد القوات الأمريكية المنتشرة فى أوروبا يناهز 67 ألف جندى. لكن هذا العدد ارتفع، على إثرها، إلى 100 ألف، قابلين للزيادة، ومدججين بأحدث المنظومات التسليحية والاستخباراتية. قاصدين التمركز بدول شرق أوروبا، كبولندا، ورومانيا، اللتين ستشكلان نقطتى تمركز عسكريتين محوريتين لواشنطن والناتو داخل أوروبا، فى مقبل الأيام، علاوة على نشر، وتنويع المنظومات التسليحية المتطورة، لا سيما الجوية منها، داخل القواعد الأمريكية فى كل من ألمانيا وإيطاليا.
أسوة بما جرى عقب الحربين الكونيتين، ثم الحرب الباردة، إبَان القرن المنصرم، ترنو واشنطن إلى الخروج، قوية ورابحة، من حرب أوكرانيا، التى تُنهك روسيا، والصين، وأوروبا، مجتمعين. حيث تتنوع المغانم الأمريكية من تلك الحرب؛ ما بين إضعاف موسكو واستنزافها اقتصاديا واستراتيجيا، وإحراج الرئيس بوتين محليا ودوليا. علاوة على توجيه رسائل تحذيرية صارمة لبكين، وإعاقة تحالفها الاستراتيجى المحتمل مع موسكو، مع تكريس التبعية الاستراتيجية الأوروبية لواشنطن. وإنهاء تبعية أوروبا الطاقوية لروسيا، وإفساح المجال لتعاظم الطلب الأوروبى على النفط والغاز الأمريكيين. إضافة إلى ترميم التحالف الأوروأطلسى، وإرساء دعائم التحالف الديمقراطى الموسع فى مواجهة الصين وروسيا. الأمر الذى يخول واشنطن، تعزيزعلاقة الردع مع الخصوم، واستبقاء الهيمنة الأمريكية على النظام الدولى أحادى القطبية. ففى كلمته أمام ملتقى قادة الأعمال بالبيت الأبيض، فى مارس الماضى؛ بَشَر، الرئيس بايدن، بنظام عالمى جديد. تكتمل ملامحه بمجرد أن تضع الحرب الأوكرانية أوزارها، وتقوده بلاده، بعدما يتلاقى شتات العالم الحُر، فى كنف المظلة الأمريكية.