تدفعنا نصوص مذكرة التفاهم التي وقعتها وزيرة الخارجية إسرائيل مع نظيرتها الأمريكية قبل أيام قليلة من رحيل إدارة بوش ، والتي توفر الحماية لإسرائيل من الصواريخ "عابرة الأنفاق" ، تدفعنا إلى استدعاء واقعة خطيرة مشابهة جرت فصولها قبل توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل بأربع وعشرين ساعة فقط وبالتحديد يوم 25 مارس 1979 .
ففي الثانية بعد ظهر ذلك اليوم ، قام السفير الأمريكي بالقاهرة حينئذ هيرمان أيلتس بإطلاع – وليس التشاور - رئيس وزراء مصر ووزير خارجيتها حينذاك المرحوم د. مصطفى خليل رحمه الله ، على مشروع مذكرة اتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل يوقعانها في نفس يوم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل أي يوم 26 مارس 1979 .
تتضمن هذه المذكرة تسع ضمانات أمريكية لإسرائيل ، وتبدأ باعتراف الولايات المتحدة بأن انسحاب إسرائيل من سيناء سيفرض على الأخيرة أعباء ثقيلة إضافية ، أمنية وعسكرية واقتصادية (كذا !) . ثم تقول المذكرة أنه إذا ما اقتنعت الولايات المتحدة بوجود خرق للمعاهدة فإنها ستقوم باتخاذ الإجراءات المناسبة لمن هذه الانتهاكات بما في ذلك الإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية ، وستكون على استعداد كي تبحث على وجه السرعة إمكانية تدعيم وجودها بالمنطقة وتقديم الإمدادات العاجلة لإسرائيل .
ومثل هذه المذكرة كانت تعنى أمرًا واحدًا هو أنه في الوقت الذي يتعهد فيه الطرفان المصري والإسرائيلي ، بتنفيذ التزامات المعاهدة بحسن النية الضرورية ، تقوم الولايات المتحدة بإصدار حكم مسبق على مصر بأنها إنما تضمر سوء النية تجاه إسرائيل ولن تقوم بالوفاء بالالتزامات المطلوبة منها بمقتضى المعاهدة .
والتاريخ هنا لابد وأن يسجل بأحرف من نور ذلك الموقف الحاسم الذي اتخذه رئيس وزراء مصر ووزير خارجيتها المرحوم د. مصطفى خليل ، حيث بعث على الفور برسالة شديدة اللهجة إلى وزير الخارجية الأمريكي حينئذ سايروس فانس يؤكد فيها أن مصر لم تستشر بأي شكل من الأشكال في شأن هذه المذكرة ، وهى التي تتأثر بشكل مباشر بما جاء بها .
مضيفًا أن المذكرة تتشكك مسبقًا في الالتزامات المصرية وتعطى للولايات المتحدة الحق في أن تكون هي الحكم في تقرير وقوع مثل هذه الانتهاكات ، الأمر الذي يتناقض مع ما تضمنته معاهدة السلام نفسها من آليات لفض الخلافات . وينهى د. خليل خطابه بأن المذكرة تعد أمرًا غير لائق في مضمونها وتوقيتها ، وأن مصر لا تعتبر نفسها ملزمة بمثل هذه الاتفاقات التي تتم من وراء ظهرها .
ولم يكتف د. مصطفى خليل بهذا الخطاب بل ألحقه بخطاب آخر أشد لهجة وأكثر تفصيلاً حيث أبرز عشرة أسباب لرفض مصر القاطع لما جاء بالمذكرة . ويكفى هنا أن أشير إلى بعض هذه الأسباب ومنها أن أمريكا قد اختصمت طرفًا لمصلحة طرف آخر ، وأقامت تحالفًا مع إسرائيل ضد مصر ، وتشارك معها في خلق ظروف تؤدى إلى زيادة الوجود الأمريكي في المنطقة ، الأمر الذي يهدد الاستقرار بها !
والطريف هنا – إذا كان في الأمر ما يدعو للطرافة – أن الولايات المتحدة وإزاء رد الفعل المصري القوي هذا عرضت عليها توقيع مذكرة مشابهة لمذكرتها مع إسرائيل ! (ويا دار ما دخلك شر) وكان من الطبيعي أن ترفض مصر مثل هذا العرض الساذج لنفس الأسباب التي رفضت من أجلها المذكرة الأمريكية الإسرائيلية .
ذكرت ما سبق كي أحاول تفسير هذا الولع الإسرائيلي الدائم بالحصول على ضمانات أمريكية ، واعتقادي أن ذلك يرجع إلى سببين رئيسيين :
أولهما أن إسرائيل بالرغم من امتلاكها كل هذه الرؤوس النووية والصواريخ التي يمكنها أن تحملها ، لا تستطيع خوض حرب طويلة نسبيًا دون وجود ضمان أمريكي بمدد عسكري غير محدود . ويكفينا الاطلاع على تسجيلات المحادثات التليفونية التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر مع المسئولين الإسرائيليين وأصدقاء إسرائيل في الكونجرس طوال فترة حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 والتي وردت في كتابه المعنون "بالأزمة" كي نتبين الهلع الذي أصاب إسرائيل والذي تمثل في كل هذه الإمدادات العسكرية التي طلبتها من أمريكا والتي استجابت لها الأخيرة عن طيب خاطر .
أما السبب الثاني في نظري فهو أن إسرائيل تبقى مستعدة باستمرار للمخاطرة بعمل استباقي ضد ما تعتبره تهديداً لها ، حتى وإن لم تتمكن من الحصول على الضوء الأخضر مقدمًا من حليفتها الكبرى . وهنا أتذكر تصريحًا لمسئول أمريكي أثناء حرب الخليج الثانية 1990-1991 قال فيه أن إسرائيل كانت قد عقدت النية على مهاجمة العراق كرد على الصواريخ التي أطلقها صدام حسين ضدها ، وأن الولايات المتحدة التي كانت تخشى من انفراط عقد التحالف الدولي ، كانت "تجثم على صدر الإسرائيليين" لمنعهم من هذا العمل .
ونحن نتذكر بالطبع قذف إسرائيل للمنشآت النووية العراقية عام 1981 ثم قذفها لما ادعت أنه مفاعل نووي في سوريا وذلك عام 2007 . لذلك فعندما تجد إسرائيل أنها أمام فرصة لتكرار هذا السيناريو مع إيران فلن تتردد في ذلك ، حتى وإن لم تحصل على الضوء الأخضر الأمريكي مسبقاً ، إنما اعتمادًا على مظلة الحماية الأمريكية التي توفرها مذكرات التفاهم المتلاحقة وقناعتها بأن الولايات المتحدة ستهب لنجدتها في نهاية الأمر إذا ما انقلب الميزان لغير صالحها .