ليست المشكلة فى الدبلوماسية السرية، وإن جرت على مستوى القمة، لأن جميع دول العالم تمارسها، بما فى ذلك القوى العظمى الديمقراطية، كما حدث عندما استيقظ الأمريكيون ذات صباح فى عام 1971 على بيان من الرئيس ريتشارد نيكسون يعلن فيه أنه ذاهب إلى بكين، ليعترف بالصين«الشعبية»، ويتبادل معها العلاقات، تتويجا لسلسلة من الاجتماعات السرية بين وزير خارجيته هنرى كيسنجر، وبين وزير خارجية الصين فى باكستان.
مصر نفسها مارست الدبلوماسية السرية مع إسرائيل كثيرا، ليس فقط فى اجتماعات حسن التهامى وموشى ديان فى الرباط تمهيدا لزيارة الرئيس أنور السادات الشهيرة للقدس عام 1977، وإنما أيضا فى بداية العهد الناصرى، أى فى السنوات التى سبقت عدوان 1956.
وعليه فلا محل إذن لتركيز الجدل فى مصر على «سرية» لقاء العقبة فى فبراير الماضى بين الرئيس عبدالفتاح السيسى، وملك الأردن ورئيس الوزراء الإسرائيلى، ووزير الخارجية الأمريكية السابق جون كيرى، لاسيما أن الشركاء الآخرين كانوا «ضالعين» فى هذه السرية، مع أن أحدا لا يستطيع الادعاء بأن الشريكين غير العربيين، تنقصهما تقاليد الديمقراطية والشفافية.
لكن ما ينبغى التركيز عليه هو انقلاب نتنياهو على ما اتفق عليه فى تلك القمة، وغدره ببقية الشركاء، وما يتوجب استخلاصه من دروس من تلك التجربة فى التفاوض معه فى المستقبل، خاصة بعد مجىء دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.
طبقا للمصادر الإسرائيلية، فقد تلقى رئيس الوزراء عرضا بتسوية إقليمية شاملة للصراع مع الفلسطينيين، والعرب جميعا، على أساس مبادرة بيروت العربية لعام 2002، مع بعض التعديلات «الحدودية» التى تطلبها اسرائيل، وطبقا لهذه المصادر أيضا، فقد رحب نتنياهو شخصيا بالعرض، وامتدح مبادرة السلام العربية علنا، ولكنه أبدى تخوفه من أن شركاءه الأكثر تطرفا فى الائتلاف الحاكم سيرفضون العرض، ومن ثم فإن حكومته ستسقط لا محالة، إذا حاول التفاوض على مثل هذه التسوية.
الى هنا، لا غبار على الرجل، ولكن الحل كان فى متناول اليد، وقد وافق نتنياهو عليه شخصيا، وسار فيه شوطا، ليتبين لاحقا أنه كان يناور على الجميع، وكان هذا الحل هو تشكيل حكومة وحدة وطنية مع حزب العمل، بقيادة إسحق هيرتزوج، ولهذا الغرض اجتمع جون كيرى مع هيرتزوج، واتصل به الرئيس السيسى أيضا، والتقى به نتنياهو، واتفق الرجلان على برنامج حكومة الوحدة الوطنية المقبلة، وسرت البشائر من تل أبيب إلى واشنطن، ومن واشنطن إلى القاهرة، مما شجع الرئيس المصرى على أن يفاجئ مستمعيه فى حفل «محلى» فى مدينة أسيوط فى مايو الماضى بالحديث عن مبادرة للسلام الدافئ مع اسرائيل، تجعل العالم يصاب بالدهشة مما سيتحقق من إيجابيات فى الشرق الأوسط، ثم يهيب بالساسة الإسرائيليين أن يشكلوا حكومة وحدة وطنية، لإنجاز هذه العملية التاريخية.
لم تمض بضعة أيام على خطاب «السلام الدافئ»، إلا واستيقظ الجميع على نبأ تعديل الحكومة الإسرائيلية فى الاتجاه المعاكس تماما، إذ جاء نتنياهو بأفيجدور ليبرمان وزيرا للدفاع، بعد أن افتعل أزمة مع وزير دفاعه السابق موشى يعلون، بحيث يضطره إلى الاستقالة، ليخلى المكان لليبرمان، المعروف ليس فقط بمعارضته للتنازل عن شبر واحد من الضفة الغربية، ولكن المعروف أيضا بوقاحة تهديداته لمصر على وجه الخصوص.
وهكذا فكل ما أسفرت عنه قمة العقبة السرية هو استخدامها من جانب نتنياهو لحل مشكلاته الداخلية، لأن رفض ليبرمان وحزبه (إسرائيل بيتنا) المشاركة فى الحكومة هبط بأغلبيتها فى الكنيست إلى 61 صوتا فقط، أى (نصف عدد أعضاء الكنيست + 1)، وهو ما يجعلها حكومة هشة، وعرضة للسقوط فى أى لحظة، وكان ليبرمان قد رفض الدخول فى الائتلاف «القومى» الجديد مع نتنياهو لأنه طالب بنص صريح فى اتفاقية هذا الائتلاف على رفض أى تسوية تتضمن تنازلات إقليمية فى الضفة الغربية، وهو ما خشى نتنياهو أن يقيد حركته، ويضفى على ليبرمان بطولة تجعله منافسا شرسا على زعامة اليمين الإسرائيلى، وجاءت نتائج قمة العقبة، والمناورة بحكومة وحدة وطنية لتدفع ليبرمان إلى العودة، مع إغرائه بإسناد المنصب الأهم فى الحكومة بعد رئيسها إليه، وهو منصب وزير الدفاع.
هكذا كانت نتائج قمة العقبة السرية حصاد هشيم، أو قبض ريح بالنسبة لجميع أطرافها إلا نتنياهو نفسه.
لكن كل ما سبق ليس إلا فصلا واحدا من القصة، إذ يبقى فصلها الأهم، وهو أن الوقت الذى نفض فيه نتنياهو يده من «السلام الدافئ»، كان هو الوقت الذى حسم فيه دونالد ترامب نتائج الانتخابات الأولية فى الحزب الجمهورى لصالحه مرشحا للرئاسة الأمريكية، وبالطبع كان رئيس الوزراء الإسرائيلى، وحلفائه داخل إسرائيل، وفى الولايات المتحدة يعلمون أكثر من الجميع ــ ومن مصادر أصلية ــ ما يخطط له ترامب فى الشرق الأوسط، فإذا انتخب ترامب رئيسا، فقد كسب نتنياهو زعماء اليمين الإسرائيلى أكثر مما يحلمون به، وإذا لم ينتخب، فليس هناك ما يخسرونه تحت رئاسة هيلارى كلينتون، أكثر مما هو مطروح دائما.
كما نشاهد ونسمع حاليا، فقد كسب رئيس الوزراء الإسرائيلى الرهان، وأحدث ترامب انقلابا ــ بكل معنى الكلمة ــ فى السياسة الأمريكية نحو الصراع العربى الإسرائيلى، فلا التزام بحل الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، فى مقابل التزام صارم بيهودية إسرائيل، فى إطار تسوية إقليمية شاملة، تأتى بالسلام «من الخارج إلى الداخل» بتعبير المعلقين الاسرائيليين، أى تبدأ بالسلام مع الدول العربية، لفرض السلام الاسرائيلى على الفلسطينيين، لكن ليس هذا كله بعد ــ وعلى الرغم من خطورته ــ هو ما يستحق تركيز الجدل عليه فى مصر، لأن هناك ما هو أولى بمصر وبالمصريين، إذ بعد أن نفى نتنياهو أن مشروع إقامة دولة فلسطينية بديلة فى سيناء كان على مائدة البحث بينه وبين ترامب فى قمتهما الأخيرة، تطوع ترامب نفسه، وكتب تغريدة على موقعه الإلكترونى تقول بالحرف الواحد: «إن التسوية القادمة فى الشرق الأوسط، لم يسبق أن بحثت من قبل، وأنها سوف تشمل العديد والعديد من الدول، وسوف تتضمن مساحات كبيرة من الأراضى»
لاشك أن من حق المصريين أن يقلقوا من هذا التعبير.
فأين ستكون هذه المساحات الكبيرة من الأراضى؟ ولماذا تحدث ترامب بكل هذه الثقة، وكأنه حصل على موافقات مسبقة من الأطراف المعنية؟
طبعا لن تكون هذه المساحات فى لبنان، بسبب اكتناظه بالسكان، وبسبب المقاومة المارونية الشرسة للوجود الفلسطينى، والرفض (الساخن) من حزب الله، ولحرص الغرب عموما على الوضع الخاص لمسيحيى لبنان، وإذن يتبقى من دول الجوار مصرو الأردن والسعودية (بعد التنازل لها عن تيران وصنافير ومشروع جسر الملك سلمان)، وهناك أيضا سوريا، وربما تمتد الأنظار إلى العراق التى بحثت بعض الدوائر الأمريكية توطين نسبة كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين فيها، خاصة فى المنطقة الوسطى لزيادة الوزن السكانى للطائفة السنية فيها، وكان ذلك فى أعقاب الغزو الأمريكى للعراق، وفى هذه النقطة الأخيرة ربما تتفق خطة توطين فلسطينيين فى العراق مع التزام ترامب علنا بكبح التمدد الإيرانى فى العراق، وسائر المشرق العربى، والخليج، إلى جانب الحيلولة دون امتلاكها سلاحا نوويا.
لكن الحل عن طريق التوطين فى سوريا أو العراق، أو الأردن يلغى فكرة الدولة الفلسطينية من الأساس.
ومع ذلك فلابد أن نعترف أن الحديث فى إسرائيل، والولايات المتحدة يتركز على فكرة الدولة الفلسطينية البديلة فى سيناء تحديدا، ولم يعد أحد يتحدث عن التوطين، أو عن الأردن باعتبارها الدولة الفلسطينية فى وعد بلفور، وهذا هو الذى يجب أن يقلق ويشغل المصريين، فلم يكن الوزير الإسرائيلى أيوب قرة هو أول من تحدث عن هذا الموضوع، حين كتب ما كتب من أن رئيسه نتنياهو تباحث حوله مع ترامب، قبل أن يعود فيقول إن كلامه كان غير دقيق، ولكن عشرات من الساسة الإسرائيليين، فضلا عن الباحثين، تحدثوا عنه باستفاضة، وبينهم بعض كبار المسئولين، مثل نتنياهو نفسه الذى اقترح شيئا من هذا على الرئيس السابق حسنى مبارك ليجابه برفض حاسم، فيما ظل ليبرمان يروج لهذا المشروع علنا قبل أن يلزمه رئيسه ومقتضيات السياسة بالكف عن هذا التهور الذى يضر بأكثر مما يفيد، على حد تعبير زالمان شوفال السفير الإسرائيلى السابق فى واشنطن، أما دانى دانون فقد قال فى أثناء شغله منصب نائب وزير الدفاع (حين كان نتنياهو نفسه هو الوزير إلى جانب رئاسته للحكومة) إن الخطط معدة لتعميق ميناء العريش حتى يتسنى استقبال السفن الكبيرة فيه فى إطار حل شامل لمشكلة غزة.
كل ذلك جرى ويجرى وسط حالة من الصمت المطبق فى جميع العواصم العربية، ولا تفسير لهذا الصمت سوى أحد احتمالين، هما أن هذا كله هراء صحفى أو أكاديمى لا يستحق الاهتمام، أو أن هذه العواصم منفتحة على كل الافكار، وتنتظر لكى يكون لكل حادث حديث، إلا أن هناك تحفظات يجب الانتباه اليها، فالسوابق لا تعزز الثقة فى نتنياهو وفريقه، كما يتضح من درس قمة العقبة، ومن باب أولى ليس هناك ما يبرر الثقة ولا التفاؤل بالرئيس الأمريكى الجديد، الذى أحدث ذلك الانقلاب فى السياسة الأمريكية، بمجرد أن التقى نتنياهو، ومن قبل أن يلتقى بأى زعيم لدولة عربية كبيرة، ودون أن يتشاور مع أحد من العرب، ولامن حلفائه الأوروبيين سوى شريكته البريطانية تريزا ماى التى تعد للاحتفال بالذكرى المئوية لوعد بلفور.
ثم ــ وهذا هو الأهم ــ إنه إذا كان الصمت يغيب الشعوب مؤقتا، فسرعان ما ستذهب السكرة، وتأتى الفكرة، وعندها لن تنجح سياسة، ولن تنفذ صفقات، وإن نفذت، فلن تبقى طويلا