على هامش أزمة مصر الراهنة، تتبدى حقيقة أساسية، من واقع الخبرة الحية للمجتمع. فلقد كان البديل الذى أفرزته الأحداث غير المتوقعة فى مصر بعد ثورة 25 يناير، يمثل ما يمكن أن يعتبر «وليداً مبتسراً»، وكان أن أدى ارتطام أركان البنيان المستقر، بالأرض الصلدة والصلبة، إلى صدمة أو صدمات مدوّية ذات تأثير مزلزل فى جميع الآفاق.
ولعل أبرز مظاهر التأثير، بفعل الارتطام والصدمة، سقوط «المؤسسة الأمنية» وتبعثر شظاياها ذات اليمين وذات الشمال حتى بدت بعد الثورة مثل مارد بأقدام من صلصال. وبرغم محاولات إعادة بنائها فإنها لا تعدو أن تكون بمثابة «الرجل المريض» داخل النظام : افتقار إلى المعلومات وتضارب فى الأداء وغموض فى الروابط التحتية لبعض عناصرها السابقة.
أما جوهر ذلك التأثير الصادم المزلزل للارتطام المدوّى، فيمكن أن نلخصه فى جانبين نعبر عنهما تعبيراً بلاغياً فى جملتين : أشباح أخذت تنهض من الركام وتتجول فى جنبات المسرح العتيد، ومرايا أخذت تتكسر محطّمة معها «أساطير» تأسيسية عديدة.
•••
فأما الأشباح التى نهضت وتجولت فى غياب من «المؤسسة الأمنية» - أو فى حضورها «المريض» – فإنها تناسلت على إثر انسحاب القوى الطليعية المتصدرة لحدث الثورة، وانزوائها فى خلفية المسرح، لأسباب متعددة. وتطبيقاً لذلك، نلحظ بعد انسحاب وانزواء ظاهرة (شباب ثورة 25 يناير 2011) ظهور فئات فتية أصغر سناً وأقل وعياً نظرياً وأكثر استعداداً لنزعة المغامرة وربما أكثر تواضعاً من حيث الأصول الطبقية. وكنا نحسبهم من (أطفال الشوارع) فإذا بهم يمثلون «الجيل الثانى» لطلائع الثورة غير المكتملة. فهذا هو الشبح الهائم الأول. وقد يمكن أن نضيف إلى هذا «الشبح» كائناً موازياً، نجم عن تمازج الرياضة بالسياسة فى تطور فريد يلامس ضفتى النهر (الشعبى) المتدفق: لعبة السياسة وسياسات الألعاب متمثلاً فى بروز (لاعب) جديد كلياً على رقعة (السياسة والرياضة) المشتركة ونقصد روابط مشجعى كرة القدم أو ما يسمى «ألتراس».
الشبح الثانى قد تناسل من الأول فأفرز بدايات لمجموعات محدودة العدد نسبياً من نفس الشريحة العمرية للشبح الأول تقريباً، ولكنها بدورها أقل منها وعياً وربما أشد تواضعاً من ناحية الأصل الطبقى وأكثر منها استعداداً للمغامرة فى سياق «إحداث الفوضى» إلى حدّ ممارسة «العنف المسلح» أو «شبه المسلح» أحياناً، كما برز مؤخراً فى سياق الحديث الإعلامى عن مجموعة هامشية أطلقت على نفسها مسمى (بلاك بلوك) تقول إنها تمارس العنف رداً على عنف النظام ومجموعة مضادة لها قيل إنها: كتائب (مسلمون). بل وتتردّد بعض الأحاديث غير المؤكدة عن «تشكيلات شبه مسلحة» لبعض الجماعات السياسية، إضافة إلى انبثاث الميل إلى العنف فى ممارسات التظاهر والاعتصام لا يستثنى منه أطراف ما يسمى بالقوى المدنية وخاصة من المستويات غير المنظمة أو غير المنضبطة من قبل المستويات القيادية، إن وجدت، وذات «الظهور الإعلامى» غالباً، وكذا أطراف «التيار الدينى» سواء من الجانب (الإخوانى) أو الجانب (السلفى).
والشبح الثالث الذى نهض فى الظلام وتجول فى الجنبات هو العناصر الإجرامية المحترفة (أطفالاً وكباراً) القادرة على التعامل مع «شياطين عديدة» من أجل الفوز بجوائز المال والحظوة، ولو بالأجرة، ممّن نسميهم (البلطجية). وتمتد ظاهرة العنف الاعتباطى أو الفوضوى لتشمل شرائح اجتماعية عديدة كنا نسميها – لغموضها فى ناظريْنا – بالطرف الثالث ابتداءً من التخوم الطرفية للشبح الأول ممثلة فى جموع الغاضبين من صغار السن وبعض مجموعات «الباعة الجائلين» مروراً بالجماعات المحدودة شبه المسلحة من الشبح الثانى وانتهاء بالهاربين من السجون وأماكن قضاء العقوبة من بين عناصر المجموعة الإجرامية المحترفة المكونة للشبح الثالث.
ويشكل هذا الخليط المضطرب بيئة حاضنة للعنف الأعمى فكرياً وغير المنظم مؤسسياً كرد فعل فى التحليل الأخير على إخفاق مشروع الثورة فى تحقيق أهدافه الافتراضية على الصعيدين الاجتماعى والوطنى وفق تعريف كل جماعة اجتماعية لهذه الأهداف بالذات.
•••
وهكذا، أخذت تنتشر ممارسة العنف لتتحول من حدث عارض إلى نمط سلوكى مستقر للأفراد والجماعات عابر للطبقات الاجتماعية على اختلافها على المستويات المختلفة للعلاقات الاجتماعية فى إطار «الزمرة» والأسرة والمؤسسة التعليمية وفى الشارع.. إلخ وإنْ بدرجات وأشكال متفاوتة نسبيا.
هذا، وإن تلك الأشباح جميعا غير قابلة بطبيعتها للمراقبة والسيطرة وهى بالقطع تغرد خارج السرب «النظامى» لكل من فرقاء الحكم والمعارضة. وبالتطبيق على اللحظة الراهنة فإن الأشباح عصية على التكوينات الهشة والرجراجة لما يسمى بالمعارضة أو «القوى المدنية» أو «جبهة الإنقاذ»..! ثم إنها عصية على التيار الدينى بصفة خاصة وعلى «جماعة الإخوان المسلمين» بصفة أخص.
وينقلنا هذا من حديث الأشباح إلى حديث «المرايا المتكسرة». فلقد أدى دخول التيار الدينى – الإسلامى إلى معمعان الممارسة السياسية المفتوحة بعد ثورة يناير إلى أن أصابه ما أصاب سائر عناصر «التكوين الاجتماعى» العربى والمصرى جراء «الارتطام والصدمة» فى ثنايا عملية الانهيار غير المنظمة للبناء القديم.
لقد فقدت جماعات «السياسة الإسلامية» قوة تأثيرها السحرية أو الأسطورية الطاغية التى اكتسبتها فى زمن (الكفاح غير المشروع) إبّان العهد السابق، ونالها ما ينال كافة القوى المشتغلة بالنشاط السياسى (الشرعى) من حول مسألة السلطة. وكان لفقدان الأثر «الأسطورى» مفعول إيجابى وآخر سلبى. فأما «الإيجابى» فقد تمثل فى انفتاح رقعة الصراع السياسى بعد أن انفرج الباب المغلق وتحطمت المصاريع ليحدث التطابق أخيراً بين «السياسة» و «الواقع». وأما «السلبى» فيتمثل فى عواقب زوال أنماط الرقابة الذاتية على سلوك الأفراد والجماعات، التى كانت تولدها عملية «بناء الضمير الدينى» فى غيبة من المعايير القيمية التى يفترض أن تنبع من قلب الممارسة الاجتماعية الحية مساندة للموروث الثقافى الأصيل.
وبذلك أخذت تتحطم الأساطير وتنكسر مرايا الهوية التى اعتصمت بها قوى اجتماعية عريضة فى زمن سبق.
ولقد أطلقت «الأشباح الهائمة» تفاعلات خارج أية سيطرة أو مراقبة من أى نوع. وبصفة خاصة إن (الجيل الثانى لشباب الثورة) – أولئك الأصغر سنا، والأقل وعياً والأكثر مغامرة، والأشد تواضعا من حيث الأصول الطبقية تفصلهم مسافة بعيدة نسبياً عن التيار الدينى، بأجنحته المتنوعة، وتفصلهم مسافة أخرى ربما كانت أقصر نسبياً عن التيار المسمى بالمدنى أو الشعبى أو (الإنقاذى).
•••
وفى عبارة موجزة، لقد آن أخيرا (للطرف الثالث) أن تنفكّ الحُجُب الكثيفة من حول أشباحه الثلاثة، وذلك يطرح أحد علامات الاستفهام الكبرى أمام العقل الجمعى العربى من أجل تفكيك «الأحجيّة» وإعادة بناء العناصر المكونة لهيكل المجتمع، بطريقة «ثورية»، وإنارة الطريق الطويل..!
أستاذ فى معهد التخطيط القومى