نفهم أو نتفهم أن من حق كل مواطن أن يكون له رأيه السياسى المستقل، بغض النظر عن تأسيس هذا الرأى على معايير علمية أو موضوعية، بما أن السياسة تحتوى بالضرورة على اعتبارات ذاتية كثيرة، كالحدس، والخلفية الثقافية، والخبرات الخاصة، والانتماءات الطبقية، والاختيارات الإيديولجية، ولكن هذه الاعتبارات النسبية لا تنطبق، أو يجب ألا تنطبق على التحليلات والآراء الاقتصادية، إلا فى أضيق الحدود، أى فى حدود الانحيازات الاجتماعية الكبرى، بما أن المعايير العلمية والموضوعية فى «الاقتصاد» أوضح وأكثر منها فى السياسة.
لذلك قد يكون مفهوم أن يتحمس كثير من مواطنينا لما يسمى فى قاموسنا الاقتصادى الحالى بالمشروعات القومية العملاقة، لأسباب سياسية، أو معنوية! ولكن ما ليس مفهوم هو الادعاء أنها تطبيق نموذجى لنظرية لورد كينز التى أنقذت العالم فى ثلاثينيات القرن الماضى من الكساد الاقتصادى الكبير، دون أن يجهدوا أنفسهم لمعرفة الشرط الأساسى لنجاح وصفة اللورد، هذا الشرط هو باختصار ما يسميه الاقتصاديون، بمرونة العرض، ذلك أن وصفة أو نظرية كينز توصى الدولة ــ فى حالة الكساد، وتفشى البطالة ــ بزيادة الإنفاق على المشروعات العامة، أى ما يسمى برأس المال الاجتماعى، من أجل تشغيل العاطلين، وبالتالى زيادة القوى الشرائية، ومن ثم زيادة «الطلب» الكلى فى الاقتصاد القومى، للقضاء على الكساد، ولكى يتحقق ذلك لا بد أن يكون العرض قادرا على الاستجابة السريعة للطلب المتزايد، بمعنى طرح سلع وخدمات جديدة بكميات كبيرة فورا فى الأسواق، سواء من المخزون الراكد، أو بتشغيل المصانع، وخطوط الإنتاج التى كانت توقفت بسبب الكساد، وضعف القوة الشرائية، وبذلك يخرج الاقتصاد من دائرة الكساد، وتبدأ دورة الانتعاش من جديد.
كان هذا هو ما حدث حقا فى الولايات المتحدة الأمريكية تحت رئاسة فرانكلين روزفلت، ثم فى معظم الدول الصناعية الرأسمالية، وكانت النتائج الناجحة لوصفة كينز هذه هى الأساس الذى قام عليه مفهوم وتطبيقات (الدولة التدخلية)، ثم دولة الرفاة الاجتماعى، فلماذا لم يحدث ذلك فى مصر؟ وهل يتوافر شرط مرونة العرض فى الاقتصاد المصرى، حتى يؤتى «الإنفاق الكبير» فى المشروعات العملاقة ثماره المرجوة؟
لا يختلف اثنان ممن يتخصصون فى الاقتصاد على أن هذا الشرط غير متوافر فى الحالة المصرية، فالمخزون الراكد إما معدوم، وإما ذو مواصفات غير جيدة، أو أن أسعاره عالية لأسباب عديدة كارتفاع التكلفة، بسبب الفساد، وتضخم الأجور البيروقراطية، وفى الوقت نفسه فإن إمكانيات ضخ سلع وخدمات جديدة فى السوق محدودة للغاية؛ لأن المصانع المتوقفة فى القطاع العام تحتاج قرارات سياسية لإعادة تشغيلها، وهذه القرارات لم تتخذ لغياب الإرادة والخطة، ولعدم كفاية المخصصات الاستثمارية، أما فى القطاع الخاص، فإننا نقرأ بين وقت وآخر عن إغلاق مصانع، أو فى أحسن الأحوال وقف نسبة كبيرة من خطوط الإنتاج فى هذا المصنع أو ذاك، فمن أين ستأتى زيادة المعروض من السلع والخدمات لتلبية الزيادة فى الطلب، التى ترتبت أو ستترتب على زيادة القوة الشرائية للمواطنين، الناجمة بدورها عن زيادة دخول العاملين والموردين فى المشروعات القومية العملاقة؟!
إن عدم زيادة العرض من الإنتاج المحلى فى وقت يزيد فيه الطلب ليس لها نتيجة إلا زيادة الأسعار، وهذا هو ما تشهده مصر حاليا إلى جانب الأسباب الأخرى للتضخم (أى لزيادة الأسعار)، مثل انخفاض سعر صرف الجنيه، وزيادة معدلات طبع البنكنوت حتى وصلت إلى 27% أخيرا، وهما فى حد ذاتهما من نتائج زيادة الطلب دون زيادة مقابلة فى العرض.
بالطبع هناك وسيلة أخرى لزيادة المعروض من السلع على وجه الخصوص، وهى الاستيراد من الخارج، لكن هذه الوسيلة كارثية فى ظروف مصر، لأنها تزيد من الضغوط على سعر صرف الجنيه، بما أن موارد البلاد من العملات الأجنبية شحيحة للأسباب المعروفة جيدا للكافة، كما أن هذه الوسيلة تزيد من الضغوط على الميزان التجارى، وميزان المدفوعات مع الخارج، وهما مختلان من الأصل فى غير صالحنا.
وإذا أخذنا فى الاعتبار أن كثيرا من مستلزمات هذه المشروعات ليست محلية الصنع أو الإنتاج، كآلات شق ورصف الطرق، وكراكات حفر تفريعة قناة السويس، وآلات دق الآبار الأرتوازية لاستصلاح الأراضى، وكذلك أنابيب وطلمبات رفع المياه، وشبكات الرى بالتنقيط، فضلا عن الوقود المستخدم، وإنما هى مستوردة من الخارج بدورها، فكيف تنطبق على اقتصادنا نظرية كينز؟! وذلك دون أن نتحدث عن افتقار كثير من هذه المشروعات لدراسات الجدوى، وثبوت عدم جدوى بعضها، أو أن بعضها الآخر قد نفذ لرفع معنويات الشعب!.
أما إذا تذكرنا أن معدلات تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة لم تشهد أية زيادة فى السنوات التى اعتمدنا فيها سياسة المشروعات القومية العملاقة، كما كنا نأمل، بل ولا ينتظر أن تحدث هذه الزيادة قريبا لأسباب سياسية، منها تعثر صدور قانون الاستثمار الجديد، ومنها الانقسام السياسى، واستمرار العمليات الإرهابية، يصبح الحديث عن علاج مشكلاتنا الاقتصادية بالدواء «الكينزى» مجرد أمنيات أو أحلام يقظة، ويتحتم علينا البحث عن أطباء آخرين، وأدوية أخرى، لأن ما يصلح لعلاج الكساد فى اقتصاد صناعى ديناميكى تنافسى لاتكبله مركزية سياسية، ولا بيروقراطية متكلسة، لا يصلح لعلاج اقتصاد زراعى، عقارى، ريعى، مكبل بالمركزية والبيروقراطية، ومحمل بأعباء الفساد، والاحتكار، وارتجالية القرارات والسياسات.
لدينا مقولة أخرى رائجة، وتتشابه مع القول بانطباق نظرية كينز علينا، وهى أن بعض المشروعات العملاقة ذات التكلفة العالية جدا، تمول من خارج ميزانية الدولة، وبذلك فإن تنفيذها لا يمثل عبئا على الاقتصاد المأزوم، فهل هذا صحيح؟
من أبجديات علم الاقتصاد التمييز بين التحليل الكلى أو ما يسمى (بالماكرو) وبين التحليل الجزئى أو ما يسمى (بالميكرو)، التحليل الكلى يتناول الظواهر والمشروعات والقرارات، وتداخلاتها، وآثارها المتبادلة على مستوى اقتصاد الدولة ككل، فى حين يركز التحليل الجزئى على المشروع الواحد، أو القطاع الواحد، فقد يكون هذا المشروع الواحد ناجح للغاية بكل الحسابات، ولكن آثاره الكلية أو القطاعية، ليست كذلك، وأقرب مثال تسعفنا به الذاكرة على ذلك هو وقف تراخيص مصانع الأسمنت فى السنوات الأخيرة من حكم حسنى مبارك، بسبب عدم حاجة الاقتصاد القومى إليها من ناحية، وبسبب العبء الضخم التى تضعه صناعة الأسمنت على موارد الطاقة الشحيحة فى البلاد، من ناحية أخرى.
إذن لا يكفى الاستناد إلى أن مشروعا ما لا يمول من خزانة الدولة، لكى نحكم بأنه لا ينطوى على آثار سلبية على الاقتصاد ككل، فقد يؤدى مثل هذا المشروع إلى زيادة الاستيراد، وبذلك فإنه يؤدى إلى زيادة تدهور سعر صرف العملة المحلية، والى زيادة العجز التجارى مع العالم الخارجى، وقد يؤدى أيضا إلى زيادة التضخم، بما يضخه من نقود فى السوق، وبما ينطوى عليه من زيادة الطلب زيادة كبيرة ومفاجئة على مستلزماته من سلع وخدمات (مثل مواد ومعدات البناء، والحرفيين، والوقود، فى حالة مشروع العاصمة الإدارية الجديدة).
من أجل ضبط التوازن بين الكلى (أى الماكرو) وبين الجزئى (أو الميكرو) نشأت وزارات المالية، والاقتصاد فى الحكومات فى الدولة الحديثة، ومن أجل ذلك نشأت أيضا مراكز البحوث، والإحصاء، والتنبؤ المتخصصة فى الاقتصاديات على المستويات القومية، بل وعلى المستوى العالمى، ولكن يبدو أن خصوصيتنا المزعومة، والتى نبرر بها كثيرا من ممارساتنا السياسية ضد الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وفى التمييز الدينى والفئوى، تتسع لتشمل أيضا كثيرا من ممارساتنا الاقتصادية !!. «وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذن أبدا»