اكتشفت محمد عبدالوهاب أولًا كملحن من خلال صوت مطربنا المفضل عبدالحليم حافظ، وكنا نظن كأطفال أن عبدالحليم هو الذى يمنح فرصة التألق لعبدالوهاب، فيضحك أبى ويقول إن عبدالوهاب هو «الأستاذ»، وهو الأصل الذى خرج منه كل التلاميذ، ويحدثنى بسعادة عن ذهابه طفلًا مع جمع من أهل قريته فى الصعيد، لكى يشاهدوا فيلم «الوردة البيضاء».
بدأت تدريجيًّا فى تذوق أغنيات عبدالوهاب القديمة، فأصبحت من المريدين والعشاق، ثم فتنت بشخصية عبدالوهاب وحكاياته ودعاباته، فصرت أطرب لحواراته ولصوته متكلمًا، مثلما أطرب لأغنياته وألحانه، ويحضرنى هنا رأى عمار الشريعى عندما ذكر أنه ما من فكرة كانت تخطر على بالهم، إلا ويجدون عبدالوهاب قد سبقهم إليها.
أسعدنى كأحد عشاق الأستاذ، مطرب القرن العشرين، على حد وصف الناقد الموسيقى الكبير كمال النجمى، أن يصدر عن دار المرايا كتاب «مذكرات الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب»، جمع وتحقيق وتقديم محمد دياب، متضمنًا ما نشر بقلم عبدالوهاب عن حياته، وعن الشخصيات التى عرفها، سواء فى مجلة «الاثنين الفكاهة والكواكب» فى عام 1938، أو فى مجلة «الكواكب» فى عام 1954.
محمد دياب المحرر الفنى المرموق لم يكتشف المذكرات فحسب، ولكنه قام بالتعليق عليها، وبتصحيح ما ورد فيها من وقائع، نتيجة السهو أو النسيان، وكتب مقدمة ممتازة، أقرب ما تكون إلى مختصر سيرة عبدالوهاب، وحكايات مذكراته المتتالية، المنشورة فى الصحف، والمبثوثة فى الإذاعة، أو فى التليفزيون، وكأن المقدمة ترتب ما جاء فى سرد عبدالوهاب العفوى، وتضع النقاط على الحروف.
فى المقدمة مثلًا ضبط التاريخ المنطقى لسنة مولد عبدالوهاب فى العام 1902، وليس 1910 كما كان يروّج، وفيها أيضًا جزء مهم وتفصيلى عن زيجات عبدالوهاب، خاصة زيجته الأولى السرية من السيدة زبيدة الحكيم، وهى سيدة ثرية حرصت على ألا يُعلن زواجهما، لأنها أرملة اشترط زوجها ألا تتزوج بعده، وإلا سيئول ميراثها منه إلى وزارة الأوقاف، وفيها أيضًا ذكر لشخصية مهمة للغاية هى محمود يوسف شمعون، شقيق الترزى الذى كان يعمل عنده الصبى عبدالوهاب، هذا الرجل تبنّى عبدالوهاب، وقدمه إلى فرقة فوزى الجزايرلى، لكى يغنى بين الفصول، بل إن شمعون تولى تدريب عبدالوهاب الصغير على الأغانى، وأقنع أسرته بالسماح له بالغناء تحت رعايته.
بين أوراق المذكرات المنسية نحو 16 عامًا، تكرست فيها أسطورة عبدالوهاب، لكن بين ما كتبه ملامح مشتركة، ففى المذكرات الأقدم فى عام 1938 يركز عبدالوهاب على الطرائف والفكاهات، وقد ضحكت كثيرًا مما كتبه من خلال سرد مدهش، ولا شك عندى فى أن عبدالوهاب كان أيضًا من ظرفاء العصر، ومن كبار الحكائين.
يقول إنه اختار منذ طفولته هيئة المتأمل الرزين والوقور، إلا أن فى داخله ابن بلد لماح، لا يفوت قفشة، حاضر البديهة، ولديه شجاعة نسبية لكى يتحدث عن شلاليت الناظر، وصفعات الأب والأخ الأكبر الشيخ حسن، وعن عشقه لفتاة جميلة، كان يلتقيها فى حديقة الأسماك، وعن دراسته الموسيقى فى معهد يديره أحد الخواجات، تحت ستار بعثة لوزراة المعارف، ودون أن يدفع مليمًا، ويحكى أيضًا عن مغامرة مليئة بالنزق والفوضى مع أحمد رامى.
ولكنه يقدم فى المذكرات الأولى أيضًا قراءة عظيمة لشخصية أستاذه ووالده الروحى أحمد شوقى، وفيها أيضًا دراسة مدهشة عن عبده الحامولى ومحمد عثمان، لا أعتقد أننى قرأت مثلها، تكشف عن فهم عميق للإضافة التى قدمها كل منهما، بل يقدم عبدالوهاب طريقة ذكية للتفرقة بين أعمالهما، والتى اختلطت على الباحثين، بسبب غنائهما لنفس الأدوار.
فى المذكرات الثانية، يحضر شوقى دائمًا بحكاياتٍ جديدة، ويقول عبدالوهاب، إنه تخرج فى ثلاث مدارس، هى: مدرسة الكتّاب، ومدرسة شوقى، ومدرسة محل حلوانى صولت، الذى اصطحبه إليه شوقى، وترددا عليه أكثر من مرة، وكان المكان أقرب إلى صالون للكبراء والشعراء، وهناك تعلّم عبدالوهاب الكثير بالصمت والاستماع.
ولكن تزيد فى المذكرات الثانية بورتريهات مكتوبة لشخصيات سياسية شهيرة، مثل مصطفى النحاس ومكرم عبيد، والأخير كان صاحب صوت جميل، وهو من لفت نظر عبدالوهاب إلى أهمية دور الكورس، فمنح عبدالوهاب الكورال دورًا مبتكرًا ومختلفًا فى أغنيته «القمح».
يتحدث عبدالوهاب أيضًا عن كراهية الملك فاروق له، بل وتهديد الملك بقتله، بسبب إعجاب النساء بالمطرب الكبير، وهناك أيضًا طرائف ظريفة للغاية عن كواليس أفلام عبدالوهاب.
يلفت النظر إلحاح عبدالوهاب على فكرة مهمة هى أنه يحب التلحين، وليس الغناء، وأنه يشعر بأن إضافته ستكون كملحن مجدد بالأساس، بل إن لقبه الأبرز كان منذ وقت مبكر هو «زعيم المجددين»، والذى كان ينافس لقبه الأشهر «مطرب الملوك والأمراء».
هناك وعى منه طوال الوقت بكل ما جدَّد فيه، ولذلك يربط إعجابه وانبهاره بسيد درويش بما قدمه من تجديد وإضافة إلى الغناء المصرى.
عمل عبدالوهاب مع سيد درويش فى فرقته المسرحية، لكن الفرقة فشلت، وحصل عبدالوهاب على سبعة قروش ونصف، نصيبه من الإيراد فى ثلاثة شهور، وأضاع فرصة أن يكون موظفًا فى هيئة المساحة، بعد أن «راحت عليه نومة»، وعمل مدرسًا للأناشيد فى المدارس، وكان من تلاميذه إحسان عبدالقدوس، ولجأ إلى تلحين الأخبار التى تنشرها جريدة «المقطم»، لأنه لم يكن يملك مالًا لشراء الكلمات من شعراء الأغانى.
رأيت فى المذكرات عبدالوهاب بطموحه وخفة ظله، وبحرصه على التعلم من الكبار: «شوقى بك مثلًا علّمه اللغة الفرنسية، وكان يحفّظه كل يوم كلمتين فقط.
كان عبدالوهاب أذنًا تسمع، وعقلًا يعى، وكان عبقريًّا فى زمن عباقرة».
كان يستحق مكانته، وكان الزمان يسمح بتلك المكانة.