كتابة تهزّ القلب والعقل - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 20 أكتوبر 2024 2:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كتابة تهزّ القلب والعقل

نشر فى : السبت 19 أكتوبر 2024 - 8:00 م | آخر تحديث : السبت 19 أكتوبر 2024 - 8:00 م

عندما جاء علاء خالد إلى القاهرة ليعمل صحفيّا متدربًا فى جريدة «السياسى المصرى» فى العام 1986 كنت ما زلتُ طالبًا فى السنة الثالثة قسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، أحاول ترويض العاصمة، مكتشفًا فرصة تدريب مبكرة فى جريدة «الوفد»، ومتأرجحًا بين لذة المعرفة، ومرارة التيه والخذلان!
وعندما عاد علاء خالد إلى القاهرة فى التسعينيات ليكتشف «جيتوهات» الثقافة والأدب، باحثًا عن المدينة الصديقة التى تعلمك الطفو، مضافة إلى الإسكندرية الأم ذات الإرث النفسى العميق، كنت فى قلب القاهرة متسللًا من بوابة الصحافة والسينما، ومعلّقا بين الأرض والسماء، وشاهدًا على زلزال المدينة، ونهاية زمن الأيديولوجيات!
وكأن علاء، الشاعر والناثر الكبير، والإنسان المراقب واليقظ، كان يكتبنى أيضًا، وهو يتأمل قاهرة التسعينيات، بناسها ومثقفيها وشوارعها ومقاهيها، فى كتابه الفريد الصادر عن دار المرايا، تحت عنوان «كرنفال القاهرة.. مشاهد من عقد التسعينيات». أو كأنه يحكى من زاويةٍ أخرى، فربما التقينا وسط هذا الكرنفال، مختلط الوجوه والألوان، دون أن نتعارف: ربما غادر علاء مكتب حسنى سليمان، صاحب دار شرقيات، فدخلت أنا، وربما التقى هو شفيع شلبى فى مركز الثقافة السينمائية، بعد أن التقيته فى اليوم الأسبق فى نقابة السينمائيين فى شارع عدلى، ولكننا التقينا أخيرًا، بشكلٍ أعمق وأقوى، على صفحات هذا الكتاب الفاتن.
• • •
أرى هذا النص مزيجًا مركبًا من الشهادة على الذات، والشهادة على الآخر، أفكار الكاتب وقد أخذت من مدينة التيه، وامتزج ما أخذته مع رؤية الذات، وخبرة السنوات، فخرجت الكتابة عميقة دسمة، تصف الواقع والبشر، متوسلة بالمجاز.
تبدو التجربة عنوانًا على ذات ثرية، وعلى سنوات ثرية أيضًا، رغم التشوش والصخب و«الكرنفالية»، وعلاء يستدعى هنا تعريف باختين لأجواء الكرنفال، إذ تُعلّق الضوابط والقوانين والممنوعات، وكل أشكال الرهبة والتبجيل وعدم المساواة، ويكون لكل فرد الحرية فى أن يفعل ما يحلو له!
حضور روح المدينة عبر ذات الكاتب مما يليق حقا بالاثنين، ومما يليق بجيل علاء، فمن مفاتيح الكتاب ألا يذوب الفرد فى الجماعة، بل أن يتفاعل معها، يروضها، ويتعايش ويتكيف، ثم يتأمل ويكتب، على اختلاف المسافات والتجارب.
التسعينيات فى مصر والعالم عقدٌ عجيب: انهيار الاتحاد السوفيتى، وتفكك الكتلة الشرقية، حرب أوروبية فى البوسنة والهرسك، غزو الكويت وتحريرها، زلزال أكتوبر 1992 فى مصر، مقتل فرج فودة، محاولة اغتيال نجيب محفوظ، مذبحة الدير البحرى، وفى نهاية العقد تفاؤل ساذج استقبالًا للقرن الحادى والعشرين!
كل ذلك حاضر فى خلفية لوحة التسعينيات، ولكن فى المقدمة تفاصيل الحياة الثقافية المصرية فى قلاعها النخبوية والهامشية، بكتابها وشعرائها ورموزها، ببقايا حرّاس الأيديولوجية، وبالمبشرين بحساسية جديدة غامضة تتشكل، حالة من «السيولة»، و«أشياء» فى طور التشكيل أو التبلور.
تصل بورتريهات الكتاب عن شخصياتٍ مثل حسن سليمان، ومحيى اللباد، وإبراهيم أصلان، وأروى صالح (التى التقيتها أيضًا لقاءات عابرة إحداها عند طبيب نفسى شهير كنتُ على موعدٍ معه لموضوع صحفى) وشفيع شلبى، وأنور كامل، وأمينة رشيد، وعلاء الديب، إلى مستويات رفيعة حقا، فى تحليلٍ فذ يختلط فيه الشعر بالتأمل، بالدراسة النفسية والاجتماعية، وبالقراءة الحرة لأعمال الكاتب أو الفنان.
وليس المكان أقل حضورًا أو إنسانية، لأنه مرتبط دومًا بالبشر، وبالثرثرة، وبالعصف الذهنى، وببعد آخر يطل عليك أينما قرأت، وأعنى به حضور الزمن بنسبيته، وطابعه المتلون.
هكذا - مثلًا - سنرى زهرة البستان، وروف فندق أوديون، وفنادق وسط البلد، ومقهى على مالك، ودار شرقيات، وهكذا سنستدعى أسرة عبده التى تركت سجلا وافيا بمصروفاتها اليومية فى نهاية الخمسينيات، عثر عليه علاء فى التسعينيات، فأصبحنا أمام زمنين يتعاركان على رقة شطرنج العاصمة.
•••
هى إذن رؤية تفكيكية للذات وللآخر وللمدينة معًا، الفرد فى مواجهة واحتكاك أكبر وأصعب، أحيانًا تظهر سلوى، شريكة الحياة، لكى تقتسم المغامرة، أو لكى تفتح آفاقًا أوسع من زاوية الفن والصورة، ولكن تظل المدينة دومًا منعكسة على أعماق ذات قلقة ومنفردة، تبحث أكثر مما تجد، وربما لولا وجود الأصداقاء ورفاق البحث، هامشًا ومتنًا، ما كان للسارد أن يصمد يوما واحدا، والصداقة كانت أيضًا من عناوين رحلتى فى تلك السنوات السائلة.
أصدقاء الكلمة يملأون السطور، يستحضرهم علاء واحدًا واحدًا، ينحتهم نحتا، لا يفلتهم أبدًا، ويحلل أعمالهم نقديّا، ثم ينفتح على صداقات أدبية بين أجيال سابقة، مثل علاقة الكاتب الأردنى غالب هلسا بمعاصريه، وحكايات شقة الدقى، ولكنه يتوقف أيضًا عند الظواهر والمفارقات، ويقيم جسورًا أطول، تمتد مثلًا بين رواية كونديرا «كائن لا تحتمل خفته»، وكتاب «المبتسرون» لأروى صالح، ينهار عالم الأفكار، مثلما انهارت العمارات فى الزلزال، ويدفع الحالمون الثمن، ولا تبقى إلا الكتابة، تشهد على محنة نفسية عميقة.
يلفتنى كثيرًا فى لوحات الكتاب علاقة الشقاء بالعقل والتفكير، فماذا لو مرت الحياة بلا مبالاة مثل حكاية جديرة بالنسيان؟
شاهدتُ كثيرين فى تلك السنوات يستقبلون أحداثًا خطيرة بمثل هذه البلادة، ولكن شقاء شخوص الكتاب، مثل «الأبطال التراجيديين»، يقترن بعيون وقلوب وعقول حساسة ويقظة: لم يستطيعوا أن يتخلّوا عن الحلم، ولم يستطيعوا تحقيقه فى نفس الوقت، مادة الحياة الحافلة بالتناقضات، والعائمة على وجه الزمن، تصنع أدبًا مختلفًا، ولكن تنتج فى نفس الوقت بشرًا غير متكيفين، وربما مضطربين أيضًا، وتحليل ظاهرة «الموهوبين القساة» فى الكتاب، واحدة من تجليات هذا الاضطراب!
قد يرفع البعض شعار «يأسك وصبرك بين إيديك وانت حر»، استلهامًا من أبيات شهيرة لصلاح جاهين، تجعل اليأس والصبر متساويين فى المرارة، ولكن لا مفر من الاختيار بين مرارتين، وماذا تكون التراجيديا غير ذلك؟!
لا يمكن اكتشاف ثقافة وجيل وكتابات التسعينيات دون العودة إلى هذا الكتاب، فهى عندى كتابة تهزّ القلب والعقل، مثل تلك التى بحث عنها علاء خالد، فى «معجنة» العاصمة، ومتاهتها.

 

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات