رحيل الأرض واستعادة الإنسان - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 21 سبتمبر 2024 10:41 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رحيل الأرض واستعادة الإنسان

نشر فى : السبت 21 سبتمبر 2024 - 5:50 م | آخر تحديث : السبت 21 سبتمبر 2024 - 5:50 م

لا أعتقد أن فن الرواية يطمح أن يكون فنًّا آخر، كل ما فى الأمر أنه يستفيد من كل الفنون، ويستخدمها لخدمة فكرة أو موضوع، دون أى تعسف أو افتعال، بأن يكون الشعر أو الرسم مثلًا عنوان الحكى والسرد، ودون الخروج من النوع أو تهميشه، على العكس تمامًا: الهدف هو إثراء النوع، والانطلاق به إلى عوالم أكثر رحابة واتساعًا، وبما يستلزمه النص، لا بما يُفرض عليه فرضًا، ومثلما تستفيد الرواية من كل الفنون، فإن الفنون تستفيد أيضًا من الرواية.
هذه رواية بعنوان «حدث فى شارعى المفضّل» لمحمد الفخرانى، صدرت عن دار العين، يمكن أن تكون نموذجًا لما ذكرته، بل لعلها «النموذج» بالألف واللام، وربما ينطبق ذلك أيضًا على «عالم محمد الفخرانى» فى روايات سابقة مثل: «ألف جناح للعالم»، و«مزاج حرّ»، و«لا تمُتْ قبل أن تحب»، وهى أعمال مدهشة شكلًا وموضوعًا، وصفتُها بأنها نقيض روايات الديستوبيا الشائعة، لأنها تثق فى انسانية الإنسان، وتستهدى بخيال أكثر تفاؤلًا، ولأنها ترى العالم والإنسان نفسه أكثر عمقًا وأهمية مما نظن، ولأنها ترسم عالمًا حرًا أعيد تكوينه زمانًا ومكانًا، ولأنها تميل إلى التجريد، والبحث فقط عما هو جوهرى، فتستعين بأدوات الشعر، وبألوان اللوحات، وبتكنيك التشكيل البصرى والسمعى، دون أن يفقد النص هويته السردية، ودون أن يختل بناء الحكاية، أو نفتقد براعة رسم شخصياتها وأحوالها وتفصيلاتها.
فى «حدث فى شارعى المفضل» كل ملامح هذا العالم الآسر، عبر فكرة خيالية تأخذنا إلى قصيدة حب للإنسان وللأرض، بل إن الأرض فى هذا النص، وكل الأشياء، تكتسب ملامح إنسانية، فنراها تشعر وتحس. الأرض هنا لها قلب ينبض، ولها روح ومزاج وقرار، وبطلة الرواية «أرضية»، وتعشق البشر، وكأن الأرض والبشر مرايا لبعضهم البعض.
ولكن الأرض غضبت من الناس فقررت الرحيل، اختفى وجهها، واختفت الألوان والنوافذ، لم تبقَ إلا بطلتنا الوحيدة، داخل منزل طينى، هو ما تبقى من الكون، وحول الأرض مساحة أرض لا تزيد على المتر، وبعدها الفراغ والهاوية.
يتم تجريد كل مفردات الحكاية، فالفتاة التى تشهد رحيل الأرض فى سن الخامسة والعشرين، لن نعرف لها اسمًا، وكذلك شقيقها الرسام الموهوب، الذى فقدته فى حادث ما، لن نعرف كذلك اسم شارعها المفضل الذى اختفى، ولن نعرف موقع النقطة الوحيدة من العالم التى ظلت على حالها، والآن على هذه الفتاة، وعبر 60 عامًا من العيش فى بيت طينى وحيد، أن تبقى أولًا على قيد الحياة، وأن تكتب أوراق تجربتها، ثم أن تحاول أخيرًا أن تستعيد الأرض من جديد.
يعود الفخرانى بذكاء إلى بساطة الحواديت، ولكن بعد أن يجعلها أكثر كثافة وثراء، وبعد أن يستقطر لغة السرد، فيعطيها ألق وموسيقى الشعر، ليس لأنه يريد أن يكون شاعرًا، لكن لأن التجربة نفسها «شاعرية وصوفية وكونية»، تمثّل فيها الفتاة، عاشقة الإنسان والأرض معًا، كل ميراث البشر، وكل قدرتهم على صنع الحياة فى أمتار قليلة، ومن خلال الزراعة والكتابة والرسم على كرة وجدتها فى الكوخ، يحضر العالم المفقود من جديد، بل إن الفتاة التى كانت مذيعة، تطير بالكرة فى الهواء، وتبث برنامجها لـ«لا أحد»، فى «لا أرض»، ثم يُعاد تشكيل الزمن، كما فعل محمد الفخرانى فى روايات سابقة، ويصبح الخيال بديل الواقع المفقود بتمامه، وينصهر الإنسان فى العالم وأشيائه، فلا تعرف الحدود بينهما.
اللافت أيضًا أن بطلة الرواية تحس وتشعر أكثر مما تفكر بشكل منطقى، وتستعيد المعرفة بطريقة أقرب إلى «الكشف الصوفى»، وكأن تجربة الكوخ الطينى، هى إعادة لتاريخ الإنسان، لأن كل الخبرات البشرية محفوظة فى داخلها، وإذا كانت إنسانة ما قد سكنت هذا الكوخ من قبل، وتركته لها، فكأن حياة بطلتنا امتداد للإنسانية كلها.
لا يمكن التعبير عن هكذا تجربة بلغة عادية، ولا يمكن أن ينتقل إليك جمال الإنسان، وجمال الأرض، ولعبتهما الطريفة، إلا عبر حضور قوى للحواس وللألوان وللطعام وللأماكن، والألوان تحديدًا تمثل عند الفخرانى الحياة نفسها، وتختار بطلته الأصفر كلونها المفضل، فترد له اعتباره، وتكتب فيه قصيدة حب.
لا يوجد شىء بلا معنى، لكن المعنى فى العين التى ترى، والقلب الذى يشعر ويحس، و«الإحساس أعلى درجات الفهم»، كما كتب الفخرانى فى رواية سابقة.
هذا الشكل، وهذا التكرار لكلمة «كان»، التى تلغى الحياة، وهذه الإحالة إلى أناشيد خالدة فى «أنا له، وهو لى، وأنا وهو معا، نبتسم لنا معًا»، هذه الطريقة التى ترسم بالكلمات هى المناسبة تمامًا للتجربة المفارقة للواقع، والعائدة إليه، ليس الشعر فى حد ذاته، لكنه الموضوع الذى فرض لغته وأسلوبه.
ربما تعيدنا هذه التجربة من جديد كذلك إلى فكرة صوفية راسخة هى «وحدة الوجود»، وفكرة أعمق هى العمل على الجانب الروحى للإنسان، وهو جانب قادر على الصعود والارتقاء، يضاف إلى ذلك معنى قبول كل صورة، والعودة إلى جوهر الإنسانية، وكذلك العودة إلى الطبيعة والأرض، التى تجعل الإنسان أقرب إلى إنسانيته، أكثر بساطة وصفاء، وأكثر قدرة على الرؤية الحقيقية.
يلفت النظر من ناحية أخرى، حضور الكاتب والفنان فى معركة استعادة الأرض، واستعادة الإنسانية: بطلة الرواية مذيعة، وتكتب أوراقًا عن تجربتها، وشقيقها رسام لديه قدرة على رؤية مستقبلها مرسومًا، وعلاقة الاثنين، وهما آخر من تبقى من البشرية، منسوجة بحس مرهف، ترفض الفتاة أن تأكل قلب أخيها، رغم أن البشر الجائعين أكلوا بعضهم، بسبب رحيل الأرض، لكن الفتاة دفنت القلب قرب شجرة زيتون، وفى القلب يكمن السر.
الأرض عقابها ابتلاع ورحيل، وإنسانة واحدة صارت عجوزًا، استعادت لنا الحياة والعالم، و«ديستوبيا» افتراضية هزمها خيال الفنان، فجعلها «يوتوبيا» ممكنة، تستعيد كل الألوان والنوافذ.
فهل كان لا بد أن ترحل الأرض لنستعيد إنسانية الإنسان؟

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات