ريح عاتية تلك التى تحاول القذف بفرنسا نحو جنوب أوروبا لتصطف مع إسبانيا والبرتغال وإيطاليا واليونان كواحدة فى مجموعة الأزمات الاقتصادية الحادة. قد لا تكون الأرقام هى الحقائق الأصدق فى التعبير عن تدهور حال أمة من الأمم، ولكنها فى حالة فرنسا صارت تعبر بصدق أكثر من أى مؤشر آخر عن سرعة انحدار الاقتصاد الفرنسى، وعن مدى انعكاس هذا التدهور على حقيقتين جديدتين، أولاهما شعبية الرئيس أولاند التى تدنت إلى ما يزيد على 24٪، ونسبة بطالة هى الأعلى منذ سنوات عديدة، وعجز فى الموازنة لم ينخفض بعد مرور عام من حكم الاشتراكيين، ووصول العجز فى الميزان التجارى إلى ما قيمته 60 مليار يورو، ورأى عام يحتوى على نسبة 70٪ من الفرنسيين يتوقعون نشوب ثورة اجتماعية، الأمر الذى ركزت عليه تقارير تشير إلى أن الشعب الفرنسى صار أكثر شعوب أوروبا تشاؤما.
الحقيقة الثانية هى انحدار مكانة فرنسا فى أوروبا فى وقت تقف فيه القارة على حافة مرحلة انتقال دقيقة. إذ إنه فى الوقت الذى تسعى ألمانيا قدر إمكانها للمحافظة على استقرار منطقة اليورو بما قدمته وتقدمه من حلول ومساعدات وضغوط، يرتفع صوت حكومة اللورد كامرون فى بريطانيا لتؤكد نيتها فى ضرورة إعادة النظر فى علاقات بريطانيا بالقارة الأوروبية، وتطرح شروطا للاستجابة لرغبة ألمانيا استمرار بريطانيا عضوا فاعلا فى أوروبا.
هنا يتضح أن الأطراف الأوروبية لم تناقش بروية أو عمق بعض أهم التغييرات السياسية التى تخضع حاليا للدراسة والبحث فى مراكز صنع القرار الأمريكى والبريطانى على حد سواء. قد لا يسمح المجال أو موضوع هذا المقال بالاستطراد فى عرض أهم الأفكار التى تتداول فى هدوء فى العاصمتين الأمريكية والبريطانية، ومعظمها يتعلق بدور بريطانيا فى المرحلة الجديدة التى أطلقتها إدارة الرئيس أوباما للتحول إلى مركزية جديدة فى الاستراتيجية الأمريكية بؤرتها شرق آسيا.
يصعب على المتابع المدقق تجاهل وجود رابطة ما بين «التوجه الكاميرونى» نسبة إلى اللورد كاميرون، نحو الانسحاب المتدرج من أوروبا وبين التوجه الأمريكى نحو التركيز على آسيا والباسيفيكى. الدلائل تشير إلى روابط عديدة، وأهمها فى نظر كاتب هذه السطور، الإشارات المتلاحقة عن حاجة الغرب، وبريطانيا خاصة، إلى العودة إلى لعب دور نشط شرق السويس، أى فى غرب آسيا ومنطقة الخليج. بمعنى آخر، العودة إلى ما كان عليه الحال قبل الانسحاب الإمبراطورى فى الستينيات من الشرق إلى الأطلسى.
لا أستطيع أن أتصور فرنسا وقد عادت لاعبا أساسيا فى اللعبة الكبرى الجديدة، لعبة آسيا. بمعنى آخر لا أتخيل لها دور رئيس خارج أوروبا وشمال أفريقيا ووسطها. وفى الجهتين تواجه فرنسا عقبات شتى، وعويصة أيضا. ففى أوروبا يتعين على فرنسا، إن أرادت العودة إلى دور «القائد المشارك» فى الاتحاد الأوروبى، أن تصلح من اقتصادها، وإلا فإن مصيرها خلال الأسابيع القليلة القادمة سيقع رهينة بديلين، أحدهما صعب التحقيق وهو أن يرتقى أداؤها لتستحق مشاركة ألمانيا القيادة فى ظروف أوروبية بالغة التعقيد والصعوبة، وثانيها، وهو المتمثل، أن تتواضع فتقبل بقيادة النصف المأزوم بشدة فى القارة، أى المجموعة التى تضم إسبانيا والبرتغال وإيطاليا اليونان. وهى الدول التى تفضل تقشفا أقل ومرونة أكثر فى التعامل مع الأزمة الاقتصادية، وتتمنى أن تقودها فرنسا وتشكل معها جبهة قوية للتفاوض مع السيدة ميركيل.
●●●
لم ينفذ الرئيس أولاند وعوده التى قدمها للناخبين الفرنسيين، وكنا خلال الأيام الماضية نتوقع منه أن يتخذ إجراءات يهدئ بها من قلق الرأى العام الفرنسى، ويحاول بها ترطيب الأجواء الأوروبية، وبالفعل، وللإيحاء بنيته الانتقال إلى موقف هجومى فى سياسته الأوروبية خرج أولاند بمبادرة تدعو إلى تشكيل «حكومة اقتصادية» أوروبية تجتمع مرة كل شهر لتدير المعركة ضد الأزمة الاقتصادية، وتقيم دعائم اندماج قوى بين دول الاتحاد الأوروبى. تدعو أيضا إلى قيام «حكومة سياسية» بعد عامين تمهد لإقامة الفيدرالية الأوروبية، وتحقق حلم الوحدة السياسية الأوروبية. مرة أخرى يخطئ أولاند ويعرض نفسه لسخرية مسئولين ألمان يعتقدون أنه مازال يتصرف كرئيس حزب اشتراكى وليس كرئيس دولة. ينسى أولاند أو يتناسى أن هناك أزمة شديدة فى الثقة بين الشعوب الأوروبية وقياداتها السياسية، وأن بعض القضايا العاجلة تتعلق بمشكلات داخلية، أى قومية وليست قارية أو دولية، وبالتالى فإن أى حكومة اقتصادية أوروبية لن تقوى على حل القضايا العاجلة. ينسى أيضا أو لعله يتناسى أن بريطانيا لا يمكن أن تقبل مناقشة مبادرة تدعو إلى وحدة سياسية أوروبية فى وقت مطروح على الشعب البريطانى استفتاء على اقتراح خروج بريطانيا من أوروبا. الكل فى أوروبا يلقى باللوم على طرف أوروبى أو آخر، ويتجاهلون التعقيدات التى تسبب فيها قرار أمريكا، والآن بريطانيا، نقل مركزية الاستراتيجية الغربية إلى شرق آسيا.
●●●
تعجبت لحال الرئيس الفرنسى ومعاونيه، الذين راحوا يلقون اللوم على أوروبا باعتبارها المسئول الأول عن أزمة فرنسا الاجتماعية ومشكلاتها الاقتصادية، تماما كما كنت أتعجب، ومازلت، لحال بعض القادة السياسيين فى الدول العربية الذين دأبوا على تحميل «العرب» مسئولية كوارثهم الداخلية، هؤلاء لا يخجلون.