نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب جازم صاغية... جاء فيه ما يلى.
كانت الماويَّة الصينيَّة تلخّص سياستها لمرحلة من المراحل بعبارة سهلة الحفظ تغدو شعارا. مثلا، فى 1957 قال ماو تسى تونغ: «دع مائة وردة تتفتح»، تشجيعا للمثقفين على نقد السياسات الحزبية والحكومية. المثقفون الذين صدَّقوا ومارسوا النقد فعلا سُجنوا جميعا.
نحن، فى لبنان، أفقنا ذات يوم قريب على عبارة ــ شعار للمرحلة المقبلة: «الاتجاه إلى الشرق». وما دام المعنى الاقتصادى للدعوة قد صدّع نفسه بنفسه منذ لحظة النطق بالشعار، جاز لنا الظن أنَّ المطلوب هو تطوير التوجه المذكور إلى انغماس فى الشرق. ذاك أنَّ التوجه إلى مكان ما ينطوى بالضرورة على تأثر بهذا المكان يتجاوز طلب المعونة المعلنة. فالعرب الذين توجهوا مبكرا إلى الغرب هم الذين أنتجوا ما بات يُعرف بـ«النهضة» التى لا تعنى، فى آخر المطاف، سوى الاقتراب من النموذج الغربى ومحاكاته.
فى الحالة التى نحن بصددها، نجدنا حيال إيضاحات لا بدَّ منها تطال المقصود بالانغماس الناجم عن التوجه: فليس المطلوب مثلا تقليد الحضارات العظيمة للصين والهند وفارس، أو التعلم من الديمقراطية الهندية وعنها، أو درس عملية انتقال مئات ملايين الآسيويين من حال اقتصادية إلى حال، نتيجة التفريع (outsourcing) الذى اعتمدته الاقتصادات الغربية. وبالطبع، ليس كتاب «كاما سوترا» الرائع مطروحا على مكتبتنا «المحترمة».
الشرق المقصود هو اللا غرب، أو ما هو ضد الغرب. والتعريف بالسلب يبقى دائما تعريفا ناقصا، لكن ما يضاعف النقص هنا أن ما من أحد اليوم ضد الغرب بالمطلق؛ لا الصين ولا الهند ولا روسيا، إذا اعتبرناها شرقية، وهذا حتى لا نتحدث عن اليابان وكوريا الجنوبية.
هذا الشرق المزعوم ربما مات مع الماوية التى أعلنت أن «ريح الشرق تغلب ريح الغرب»، لتغطس فى «ثورة ثقافية» ما زال المؤرخون منهمكين فى إحصاء عدد الملايين الذين قتلتهم. كوريا الشمالية قد تكون آخر حشرجة «شرقية» مولَعة بالقطيعة المطلقة وبنظرية «جوتشه» فى الاعتماد على الذات والاكتفاء بها.
أغلب الظن أن التوجه إلى الشرق بوصفه اللا غرب يستبطن، قبل أى شىء آخر، كراهية الديمقراطية الغربية، وافتراض أنها غزو ثقافى «يفتت الأمة» ويُضعفها. وليس بلا دلالة أن أعدادا كبيرة نسبيا ممن انتموا إلى التيار الماوى تحديدا ما لبثوا أن اعتنقوا توجهات قومية ودينية، على رأسها الخمينية الإيرانية. المهم عندهم مقاومة الغرب، أكان بالماوية أم بالخمينية أم فى ظل أى يافطة أخرى مناهضة للديمقراطية والتعدُّد. المهم العثور على الطوطم المعبود الذى نلتف حوله فيقود خطانا فى هذا الصراع: ماو، كيم، خامنئى، الأسد... كلهم صالحون.
أما لبنان تحديدا؛ فانغماسه فى هذا الشرق يعنى نسفه بالكامل، وهى مهمة تبقى مستحيلة من دون واحد من اثنين، أو الاثنين معا: السيطرة المباشرة على نظامه السياسى والاقتصادى، وإبقائه فى حالة حرب دائمة مع عدو ما. وضعٌ كهذا، إذا ما كُتب له التحقق، لا يعنى إلا الحرب الأهلية، الطائفية والمناطقية، بوصفها نظاما للحياة.
فى المقابل، تكمن أهمية لبنان بالضبط فى أنه انتمى إلى الشرق، واستطاع أن ينتمى، فى الوقت ذاته، إلى عالم أوسع. وربما جاز القول إنَّه قدم نموذجا معقولا عن تجاوز فكرة «الانتماء» بمعناها الضيق الأفق والأبرشى الجذور.
ونزعة الانتماء بهذا المعنى ليست جديدة طبعا. فذات مرة كانت الحملة على المستشرقين الذين يتحركون بين عوالم عدة، بوصفهم يخترعون شرقا غير قائم. وهذا علما بأنَّ ثنائية غرب ــ شرق لم تزدهر كما ازدهرت بعد نقد الاستشراق وعلى أيدى نقاده. كذلك نُفخت مقولة «المسيحية الشرقية» نفيا للإقرار بأى تعددية داخل هذا الشرق، وراج التوكيد على تلاحم المسيحية فى الإسلام، وعلى أنَّ الحروب الصليبيَّة ليست غير شذوذ خيانى عابر. وعن هذه الشرقية وُلدت لاحقا «مشرقية» مهمومة بدعم بشار الأسد، رمز انتمائنا وكرامتنا! أما فى نقدنا إسرائيل فلم نركز على العنصرى والاستيطانى فيها بقدر ما ركّزنا على «عدم انتمائها» إلى المنطقة التى تعج بالعنصرى معطوفا عليه الاستبدادى. وأى أحمق هو الذى ينتمى، بمحض إرادته، إلى هذه المنطقة؟
لكنْ لتسويق هذه الشرقية، شرقية الحروب والحروب الأهلية، كان لا بدَّ من الأكاذيب. فلأجل ديمومة الحروب، قيل إنَّ «داعش» على وشك أن يدخل بيوت اللبنانيين بيتا بيتا، لكن المنقذ هبَّ فى اللحظة العصيبة لإنقاذنا. ولأجل ديمومة الحروب، حذفنا من التاريخ والذاكرة فترة 1949 ــ 1968 حيث نجح لبنان سلما فى تفادى «الذئاب»، وفق تحذير الأمين العام لـ«حزب الله». والحال أنَّ «الذئاب» لم تأتِ إلا بعد مقاومة أولى مهّدت الطريق لاحتلالٍ نجم عنه تحرير المقاومة الثانية، وبالتالى مطالبتنا بالعيش إلى ما لا نهاية حياة مقاوِمة شرقية جدا.
ومحو المعرفة بالماضى، كما نعلم، شرط شارط لدخول المستقبل، على هذا النحو الغريب: أرواح تعيسة وبطون جائعة وأفواه مكمومة لا يخرج منها إلا ألسنة تنطق بالكرامة وتبايع الزعيم. هذا هو الشرق الذى يُراد لنا أن نتوجه إليه وننغمس فيه.