سألت صديقى الصحفى المخضرم المقيم فى واشنطن: لماذا فى رأيك اختار الرئيس حسنى مبارك العاصمة الأمريكية ليوجه منها كل تلك الرسائل المهمة إلى الرأى العام المصرى والعالمى؟ وهى كلها رسائل تتعلق بالشئون الداخلية المصرية.
أجاب صديقى: لأنه ببساطة لم يلتق بصحفى مصرى أو عربى منذ فترة طويلة، ولأنه حتى لو كان قد التقى صحفيا مصريا أو عربيا ما كان أحد منهما ليسأله تلك الأسئلة التى وجهها مذيع التليفزيون الأمريكى تشارلز روز، وبتلك الجرأة والاستمرارية.
لاشك عندى فى أن تلك الإجابة صحيحة، حتى إننى علمت أن الرئيس مبارك أدلى بحديثة للأهرام صبيحة وصوله إلى واشنطن حتى ينشر قبل إذاعة حديثه مع تشارلز روز، لكن المناسبة كانت أيضا زيارته للولايات المتحدة، وهو ما يوحى باستشعار الجميع أهمية الأوضاع السياسية فى مصر، ومستقبلها بعد الرئيس مبارك، وبأنها كانت وستظل من بين موضوعات البحث فى اللقاءات الثنائية المصرية الأمريكية على كل المستويات، بما فى ذلك المستوى الرئاسى، وهذا ما أكدته مبادرة الرئيس المصرى من تلقاء نفسه فى المؤتمر الصحفى المقتضب فى البيت الأبيض بعد محادثاته مع الرئيس الأمريكى إلى القول بالحرف الواحد تقريبا: «أما بشأن الإصلاح السياسى فى مصر، فقد أبلغت الرئيس أوباما بصراحة، وبمنتهى الصداقة أننى دخلت الانتخابات وفقا لبرنامج إصلاحى، وقد نفذنا أجزاء منه، وسوف نستكمل تنفيذه فى العامين المتبقيين على انتهاء الفترة الرئاسية الحالية».
تناولنا فى تقاريرنا الإخبارية من واشنطن فى الأسبوع الماضى التأويلات المختلفة لهذه المبادرة من جانب الرئيس المصرى، ونلخصها سريعا مرة أخرى هنا، فمن المحتمل إلغاء حالة الطوارئ، والرئيس لن يتقاعد مبكرا، وينقل الحكم إلى نجله جمال أولا أو أى أحد آخر، أما بقية التأويلات فهى أن هذه المبادرة هى تطبيق نموذجى لأسلوب إدارة الرئيس أوباما الأمريكية فى تناول قضية الإصلاح فى مصر حسب توصية معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى: «أى الحديث فى هذه القضية مع الرئيس مبارك بطريقة جادة وأقل علانية».. أى خلف الأبواب المغلقة، وإذا وضعنا إلى جانب هذا الجزء من الصورة أن الرئيس مبارك أعلن من واشنطن أيضا أنه لا نية لحل مجلس الشعب، لأنه لا توجد ضرورة لذلك، وأن الرئيس وجه إلى جماعة الإخوان المسلمين أكثر رسائله هدوءا ولينا فى السنوات الأخيرة فى حديثة إلى تشارلز روز.. فقال إنه لا يعبأ بهم ما لم يرتكبوا أعمالا إرهابية.. نقول إذا وضعنا هذين التصريحين للرئيس مبارك جنبا إلى جنب مع تأويلات تصريحه فى البيت الأبيض، فإن النتائج أو الاستنتاجات المرجحة كما يلى:
1ـ هناك تقدم فى محاولات الاتفاق على صفقة بين الحكومة وجماعة الإخوان المسلمين لضمان انتخابات برلمانية ورئاسية هادئة.
2ـ لن يكون من بين شروط هذه الصفقة إلزام الإخوان المسلمين بعدم خوض انتخابات مجلس الشعب، لأن رسالة الرئيس إليهم من واشنطن تضمنت قبولا ضمنيا لاستمرار وجودهم فى البرلمان كمستقلين حين قال إنهم موجودون الآن كمستقلين فى مجلس الشعب، ومادام أنهم لا يمارسون الإرهاب فإن أمرهم لا يعنيه.
3ـ الحزب الوطنى، وأجهزة الأمن السياسى الداخلى توصلت إلى أنه من المستحيل الالتفاف على الإخوان أو تجاوزهم بأى وسيلة، على غرار محاولة إحياء حزب الوسط أخيرا، لينزع صفة التمثيل المدنى لتيار الإسلام السياسى من جماعة الإخوان، ويبدو أن تلك المحاولة الأخيرة كانت ورقة ضغط على الإخوان لإبداء مرونة أكبر فى المفاوضات الجارية حول الصفقة مع الحكومة، ويبدو أيضا أن هذه المناورة «الذكية» حققت أهدافها.
4ـ إن قضية التوريث بمعنى حصر خلافة الرئيس حسنى مبارك فى شخص نجله جمال أمين السياسات بالحزب الوطنى لم تعد قضية ملحة فى الاتصالات الخارجية والصفقات الداخلية، فمن ناحية لم يظهر «جمال» فى البيت الأبيض، رغم أنه رافق والده فى الرحلة إلى الولايات المتحدة، وثانيا لم يستضف خلال فترة الزيارة فى أى مناسبات علنية، أو إعلامية، وثالثا ما سبق أن قلناه من أن الرئيس نفى من خلال تصريحه فى البيت الأبيض عقب المباحثات مع الرئيس الأمريكى نية أو شائعات التقاعد المبكر، وأوصى بوضوح لكل من يعنيه الأمر أنه لايزال يمسك بزمام الأمور.
بالطبع فإن كل هذه الرسائل مهمة، بل وبالغة الأهمية، غير أننى أرى أن أكثرها أهمية وارتباطا بصورة المستقبل فى مصر.. هى رسالة الرئيس إلى الإخوان.