تراءى الجمعان، فقال المثنى لجنوده: إنى مكبر ثلاثا فتهيئوا، ثم احملوا مع الرابعة(!)
ولكن الفرس لم يُمهلوا المسلمين حتى تتم التكبيرات، بل عاجلوهم بعد أول تكبيرة، وأقبلوا نحوهم فى ثلاثة صفوف، مع كل صف فيلٌ أمام المشاة، ولم يكن الصف مفردا بل كان كثيفا متعدد الأفراد. وأخذ الفرس يصيحون ليلقوا الرعب فى قلوب المسلمين، فأدرك المثنى ذلك، فقال للمسلمين بسرعة: «إن الذى تسمعون فشل (يعنى جعجعة بلا طحن) فالزموا الصمت وائتمروا همسا (!)» تلك كانت الخطة المقابلة لإلقاء الرعب، بالصمت، فى نفوس الفرس. إذ لابد أن يقع فى قلوبهم أن المسلمين لا يصمتون، بإزاء صياحهم الجنونى، إلا لأمر عظيم يخبئونه لعدوهم، ولا يظهرونه إلا لحظة الالتحام.
وهكذا كان، فالتحم المسلمون والفرس مدة طويلة، ورأى المثنى خللا فى بعض الصفوف فأرسل إليهم رجلا يقول لهم: إن الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول: «لا تفضحوا المسلمين اليوم» فقالوا نعم(!) واعتدلوا، واعتنوا بأمر، لم يعن به سواهم يومئذ، وهو مراقبة المثنى والحمل معه على الفرس كلما حمل عليهم، وأبلوا فى ذلك بلاء عظيما.
ولم يكن جيش الفرس بالعدو الهيّن، بل طال القتال بينهم وبين المسلمين، واشتد، فقال المثنى لرجلين من المسلمين إذا رأيتمانى حملت على مِهران فاحملا معى. فحمل عليه المثنى فأزاله عن موضعه، منهزما، حتى أدخله فى ميمنة الجيش. وضغط المسلمون مع قائدهم فخالطوا عدوهم، واجتمع قلبا الجيشين، واختلطت الميمنتان والميسرتان، فلم يفزع الفرس لشدة القتال لنصر أميرهم مهران، ولم يستطع المسلمون أن ينصروا أميرهم المثنى فاستمر الالتحام بين الجيشين زمنا غير قليل.
وكان قائد مشاة المسلمين هو مسعود بن حارثة، أخا المثنى، فقال لجنده: «إن رأيتمونا أُصِبْنا فلا تَدَعوا ما أنتم فيه، فإن الجيش ينكشف ثم ينتصف (أى يهزم عدوه). الزموا مصافَّكم (أى أماكنكم التى تقاتلون فيها) وأغنوا غناء من يليكم».
وأصيب مسعود بن حارثة، وقواد كبار من المسلمين، ورأى تَضَعْضُعَ الصفِّ من خلفه لإصابته وقد أثقلته الجراح فصاح بهم: «يا معشر بكر بن وائل ارفعوا راياتكم، رفعكم الله، لا يهولنكم مصرعى (أى لا يعظم عليكم)». وعلى الرغم من اشتداد المعارك، وجلبة السلاح، فقد سمع المثنى بن حارثة صوت أخيه مسعود، فخاطب الناس بقوله: «يا معشر المسلمين لا يروعكم مصرع أخى، فإن مصارع خياركم هكذا». فكانت سنة حسنة: ألا يؤثر استشهاد أحد كائنا من كان فى عزيمة الجيش وصبره وثباته.
وعلى الرغم من هذه الإصابة الكبيرة فقد استمر ضغط المسلمين على جيش الفرس حتى قتل مِهران قائد الجيش، وقتل قائد الفرسان شهربراز، واستمر القتال حتى أفنى المسلمون جنود قلب جيش الفرس، وانفصلت الميمنة من جيشهم عن الميسرة، وبدأت كلتاهما تهتز لكثرة القتل فى الفرس. ووقف المثنى فى القلب بينهما ومعه رجال يبتهلون إلى الله ويسدون أى ثغرة تبدو فى موضع من مواضع قوات المسلمين. وجعل المثنى يرسل إلى ميمنة المسلمين وميسرتهم من يقول لهم: «إن المثنى يقول لكم: هكذا عاداتكم فى أمثالها. انصروا الله ينصركم»؛ حتى هزم الفرس، وأخذوا فى الفرار يريدون عبور النهر من فوق الجسر إلى الناحية الأخرى. فسبقهم المثنى فيمن معه إلى الجسر، ليمنع عبورهم، وجالت فيهم خيول المسلمين إلى الليل ومن الغد إلى الليل حتى أبادوهم؛ فما كانت بين العرب والعجم موقعة أبقى أثرا منها.
قال المثنى بن حارثة: «قد قاتلت العرب والعجم فى الجاهلية والإسلام والله لمائة من العجم فى الجاهلية كانوا أشد علىَّ من ألف من العرب، ولمائةٌ اليوم من العرب أشد علىَّ من ألف من العجم. إن الله أذْهبَ مصدوقتهم (أى صدق حملتهم فى الحرب على عدوهم) ووهَّن كيدهم فلا يردعنكم زهاء (منظر) ترونه ولا سواد (كثرة) ولا قيسىٌّ فُجٌ (جمع قوس فجَّاء أى بعيد وترها عن كبدها، وهو دليل جودتها) ولا نبالٌ طوالٌ، فإنهم إذا أعجلوا عنها، أو فقدوها، كالبهائم أينما وَجَّهتموها اتجهت(!)».
وانتهت المعركة بنصر مؤزر للمسلمين على عدوهم.