يُحكى أن رجلا مهما وصل إلى المطار، وتوجه إلى مكتب التسجيل للحصول على تذكرة صعود الطائرة. رأى الرجل أن الطابور طويل، فتوجه للمضيفة مباشرة ومد يده بجواز السفر والتذكرة. طلبت منه السيدة فى أدب أن يعود إلى مكانه فى نهاية الصف، فنظر لها فى غضب وتساءل: «إنتى ما تعرفيش أنا مين؟».
هذا الرجل الخارق للدور والقواعد فى مجتمعنا، ليس شخصا واحدا وإنما مئات الآلاف. وقد يزيد العدد إلى ملايين إذا أضفنا الزوجات والأبناء والأحفاد وباقى أقارب الدرجة الأولى. أراهم كلما عدت إلى القاهرة من أى رحلة فى الخارج، يجلسون عادة فى مقاعد الطائرة الأمامية، ويتمتعون بمداعبات أفراد طاقمها. وكثيرا ما يخرج الطيار ليلقى عليهم التحية علهم يذكرونه لـ «بابا».
عند الوصول إلى أرض الوطن بسلام، يكون فى انتظارهم وفد من «المشهلاتية» وحملة الحقائب. وتختلف درجة قرب أفراد الوفد من الطائرة، بحسب درجة نفوذ المسئول. لو كان محدودا سيقفون فى صالة الجوازات، أما لو كان الرجل من أصحاب النفوذ الحق فستخرج العائلة مباشرة إلى سيارات «مفيمة» الزجاج، بل وربما يحملون حملا من مجلسهم، إلى مقاعد السيارة الوثيرة.
فى مصر تحول الأمر من مجرد استثناءات تسعى لها القلة، إلى ثقافة مجتمع يناضل أفراده من أجل التميز عن طريق التعدى على حقوق الآخرين، وأحيانا بانتهاك القانون والتباهى بالقدرة على الإفلات من العقوبة.
كثير من المصريين يؤرقهم طموح الاقتراب من «الفئات السيادية»، وهو طموح رسمه ببراعة المخرج والكاتب محمد أمين فى فيلمه «فبراير الأسود»، الذى جسده باقتدار الفنان الراحل خالد صالح. أوضح الفيلم كيف يصبح الاقتراب من السلطة، والتماهى معها، والتحلى بعلاماتها المميزة ضمانا للحماية. وقد تطور الأمر إلى قبول مجتمعى واسع، وسعى عام للاستثناء فى المعاملة، والحصول على امتياز كسر القواعد، وخرق القانون مع الأمان الكامل من العقاب، وصارت هذه مكافأة المجتمع للمنتمين إلى تلك الفئات الخاصة.
وقد بلغ مرض «المنظرة» والتباهى بالسلطة حدا أصبح يهدد معه أمن وسلامة الناس، دون أن تجد المسألة من يوليها أى قدر من الاهتمام. فعلى مدى أكثر من عام، سمعنا ورأينا وقرأنا عن ظاهرة السيارات التى تجوب شوارع المعمورة بلا أرقام أو بلوحات استفزازية تعبر عن استهانة معيبة بالأمن والقانون. تعبر هذه السيارات كمائن المرور ويتلقى راكبوها «تعظيم سلام» ويتبادل الناس صور المخالف منها، ويطالعونها فى الصحف والمواقع دون أن يتحرك أحد. يحدث هذا رغم توالى أحداث الإرهاب والتفجيرات، التى تستخدم فيها سيارات مفخخة واحدا بعد آخر.
نعود للرجل المهم الواقف فى المطار. فبعد أن سمعت المضيفة سؤاله الاستنكارى «إنتى ما تعرفيش أنا مين؟» تناولت الميكروفون الداخلى وقالت للمسافرين: «أيها السادة والسيدات، أمامى رجل فى منتصف العمر لا يعرف من هو. على من يستطيع المساعدة والتعرف عليه أن يتقدم للأمام»!
لا أعرف للقصة بقية، فهى قديمة وعمرها سنوات. ويقينى أنها لو حدثت اليوم فسيكون على المضيفة أن تعلن أن قطاعا كبيرا من الناس قد فقد الذاكرة، ولم يعد يدرك ماهية وجوده أو تبعات أفعاله. يعشق «المنظرة» ويضحى من أجلها بكل غال ونفيس، حتى لو كان أمن الوطن.