استعادة التوازن إلى ميزان القوى فى لبنان - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 6:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

استعادة التوازن إلى ميزان القوى فى لبنان

نشر فى : الخميس 23 سبتمبر 2010 - 9:40 ص | آخر تحديث : الخميس 23 سبتمبر 2010 - 9:40 ص

 جاءت تبرئة سعد الحريرى لسوريا من تهمة اغتيال والده رفيق الحريرى لتستفز أطرافا متعددة فى لبنان كما فى خارجه، ولتطلق عقال تصعيد جديد فى الأزمة السياسية اللبنانية. أصابت التبرئة تماسك التحالف المعتمد على حزب المستقبل الذى يرأسه الحريرى، وعلى كل حال لن تكون هذه المرة الأولى التى يتهدد فيها هذا التحالف، فقد فاجأه النائب وليد جنبلاط زعيم الحزب التقدمى قبل عام عندما انقلب بموقفه المناهض بشدة لسوريا إلى موقف المؤيد بقوة لها. راح أنصار الحريرى، من المسيحيين خاصة، يبحثون عن تفسير لقرار البراءة بدون محاكمة. ولم يمنعهم من الانفراط سوى اطمئنانهم إلى أن سعد ما كان برأ سوريا لو لم تكن هناك موافقة من المملكة العربية السعودية، وما كانت السعودية توافق أو تشجع سعدا ما لم تكن قد أطمأنت إلى وعود سورية معينة ومنها ضمانات بسلامة المسيحيين اللبنانيين.

يعتقد بعض ممن تحدثت إليهم من المحللين اللبنانيين بأن الارتباك الذى ساد أوساط حلف الحريرى ربما لفت الأنظار بعيدا عن ارتباك أشد داخل أوساط حلف الممانعة الذى يقوده حزب الله مثل جماعات الرئيس الأسبق ميشيل عون وسليمان فرنجية. لاحظت أيضا أن قليلين انتبهوا إلى أن قيادات أخرى، وبخاصة داخل تيارات السنة، مثل الرئيس سليم الحص، ينتابها قلق شديد بسبب التطور المتسارع للأحداث فى لبنان نحو التدهور، ولا شك أن غياب الحريرى عن بيروت عدة أيام قضاها فى السعودية أضافت إلى الارتباك السائد على جميع الجبهات فى الساحة السياسية اللبنانية، وبخاصة بعد أن أعلن أن رئيس قوى الأمن الداخلى السابق اللواء جميل السيد قرر فجأة العودة من باريس، بعد أن صدر قرار باستدعائه للتحقيق فى اتهامات أدلى بها قيل إنها أساءت إلى سمعة القضاء اللبنانى.

عاد الحريرى من المملكة ليؤكد تمسكه بثوابت ستة، أهمها فى واقع الأمر ثلاثة: هى عدم التراجع عن دعم المحكمة الدولية والتمسك بالعلاقة الطيبة مع سوريا التى التزم بها بعد تبرئته لها. أما الثابت الثالث فهو حماية الاحتضان العربى للبنان فى ظروفه الراهنة. والمقصود بالاحتضان العربى فى ذهنية السياسة اللبنانية هو التوافق القائم حاليا بين السعودية وسوريا حول الشأن اللبنانى أو كما يطلق عليه إستراتيجية الاحتماء بالثنائية «السينية» نسبة إلى حرف السين فى السعودية وحرف السين فى سوريا.

قابلت فى لبنان من ذكرنى بما كتبته منذ عقدين أو أكثر عن فضل الرياض على تدشين عملية قوات الردع العربية التى تطورت فكرتها بعد شهور من إطلاقها لتقتصر على الجيش السورى وحده ممثلا للجامعة العربية لوقف الحرب الأهلية فى لبنان. أعرف، ويعرف آخرون عاصروا هذه التطورات فى السبعينيات، أنه حين ناشد بعض القادة المجتمعين فى القمة العربية المنعقدة فى القاهرة الرئيس السادات بالموافقة على أن تقود مصر قوات التدخل فى لبنان لوقف الحرب الأهلية قبل أن تتسع رحاها، أجاب السادات وقتها بأنه لن يسمح لجندى مصرى واحد بالاشتراك فى أى مهمة خارج الأراضى المصرية وبخاصة فى «الوحل اللبنانى»، وكانت هذه أول إشارة تصدر عن القيادة السياسية المصرية تكشف عن النية فى الانسحاب من المشاركة فى أى التزامات مترتبة على دور سابق لعبته مصر فى قيادة أو توجيه النظام الإقليمى العربى. كانت سوريا راغبة بطبيعة الحال هذه فى تقلد هذا الدور وبخاصة إذا كانت أول ممارسة لها ستجرى على المسرح اللبنانى، وكانت السعودية جاهزة للعب دور خاص بشرط ألا يتجاوز هذا الدور أمرين أولهما أن تمارس التوجيه عن بعد بمعنى عدم المشاركة بقوات كبيرة، وثانيهما توافر الشرعية الثابتة للتدخل عن طريق جامعة الدول العربية. وبالفعل صدر قرار إنشاء قوات ردع عربية مستندا إلى ثلاثة تطورات هى: الرغبة المصرية فى الانسحاب من قيادة العمل العربى المشترك، والرغبة السورية فى التدخل بسرعة وإن منفردة، والرغبة السعودية فى وقف التجاوزات من جانب الفلسطينيين وقوى أخرى وحماية مسيحيى لبنان.

قابلت لبنانيين يحاولون قراءة الحاضر والمستقبل باستلهام الماضى وبخاصة هذا الجانب منه. فكما أن العرب الآخرين، وبخاصة الأقرب إلى الشأن اللبنانى، كانوا حريصين فى السبعينيات، ومرة أخرى فى التسعينيات، على التدخل بعزم وحماسة وسرعة لوقف تجاوزات، باعتبار أن التجاوزات فى ساحة متأزمة أو على هامشها تكفى شرارة واحدة منها لإشعال حريق هائل فى لبنان، ومنه إلى المشرق بأسره - ها هم نفس عرب السبعينيات يعودون وقد بدا عليهم الحرص وإن بحماسة أقل ولكن بعزم أكيد، على التدخل لوقف ما يعتقدون أنها تجاوزات، إن أفلت عيارها سيكون من العسير لجمها أو التفلت من عواقبه. المؤكد أن بعض سلوكيات أطراف حزبية لبنانية تجاوز الحد الذى يمكن أن يتحمله لبنان فى الحال الراهنة.

مرت شهور أطلق عليها لبنانيون فترة «هدنة السياحة» وهى فترة حرص أغلب اللبنانيين المحافظة على هدوئها ليعم خير السياحة على الجميع وتهدأ النفوس. ومع ذلك حدث فى برج حمود ما عكر صفاء هذه الهدنة، وأمكن بسرعة محاصرته ومنع امتداده إلى مناطق أخرى. صحيح أنه خلف آثارا سلبية، وبخاصة على ناحية الشكوك المتبادلة وبالتحديد حول مستقبل ترتيبات الأمن فى بيروت. وبعد انقضاء فترة الهدنة أطلق الحريرى مفاجأة تبرئة سوريا من جريمة اغتيال والده وكان طبيعيا ومتوقعا أن تستعد كل الأطراف السياسية فى لبنان لاحتمالات نشأة وضع جديد لتوازن القوى الداخلى فى لبنان على ضوء التغيير القوى الذى سيطر على العلاقة السورية اللبنانية، باعتبارها العنصر الحاسم فى أزمة صراعات لبنان الداخلية وعلاقاته الإقليمية.

وفى القاهرة سمعت من أحد المتابعين للشأن السورى حديثا عن توقعات بتغيرات، غير جوهرية ولكن محسوبة، فى العلاقة بين حزب الله والقيادة السورية، أعرف أن كثيرين لديهم أمانى أن يكون هذا التغير بداية مرحلة ينعزل فيها أو يعزل حزب الله ويوضع فيها للمقاومة اللبنانية سياج لا تتخطاها داخليا وخارجيا، ولدى آخرين أمانى أوسع وأكبر عن تقليص النفوذ الإيرانى عموما فى بلاد المشرق. يذهب هؤلاء إلى حد الربط بين مرور الرئيس الإيرانى على دمشق فى طريقه إلى نيويورك واتصالات كثيفة بين قيادات فى الحلف الدائر فى فلك المقاومة وقيادات سورية. يحق لبعض أصحاب الأمانى أن ينتظروا تحولا جذريا فى السياسة السورية، ولكن واجبهم أن يدرسوا الثوابت فى دور سوريا فى لبنان، وأولها حرمان أى طرف أيا كان من أن يصل بسلاحه أو بنفوذه ومصادر تمويله إلى موقع قوة يسمح له بالإخلال بتوازن القوى فى لبنان. وأعرف أنه هو نفسه الثابت الأهم بين ثوابت دور السعودية فى لبنان.
يبقى من الضرورى أن نعرف إن كان السوريون والسعوديون قد توصلوا إلى قناعة مشتركة بأن خللا فى توازن القوة اللبنانى قد وقع فعلا، وإن كان هذا الخلل يستوجب إصلاحه فورا، وإن كانت سوريا مستعدة للتدخل لإعادة التوازن إلى نقطة توازنية جديدة، وإن كان الوضع الإقليمى والدولى مهيئا لهذا التدخل.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي