تفكيك الاتحاد السوفيتى.. كنت هناك - رؤوف سعد - بوابة الشروق
السبت 28 سبتمبر 2024 2:14 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تفكيك الاتحاد السوفيتى.. كنت هناك

نشر فى : الجمعة 23 سبتمبر 2022 - 6:55 م | آخر تحديث : الجمعة 23 سبتمبر 2022 - 6:55 م

أولا: سعدت بقراءة المقال الذى كتبه الدكتور مصطفى كامل السيد عن لقائه مع جورباتشوف والنهاية الحزينة له ولبريسترويكا، وتذكيره بلقائه معى فى موسكو الذى مضت عليه سنوات عدة، وأحييه على ذاكرته الشابة التى ليس بوسعى أن أتنافس معها.
ثانيا: أعترف بأننى لا أذكر واقعة تلميح الراحل جورباتشوف برغبته فى زيارة القاهرة، وما أستطيع أن أجزم به أن إبلاغى بهذه المعلومات بالقطع تم نقله إلى القاهرة، واستميح عذرا أننى لا أذكر أن هذه الزيارة تحققت، ولا بد أن لذلك أسبابا كان لها ما يبررها آنذاك.
ثالثا: تقديرى أن المقال هو من أفضل ما كتب بمناسبة رحيل جورباتشوف خاصة فى تحليل أسباب فشل المشروع الإصلاحى لجورباتشوف، وأقصد الفشل الاقتصادى والقوميات، اللذين أطاحا بالمشروع الإصلاحى وجورباتشوف وبالاتحاد السوفيتى كله.
رابعا: ربما لا تعلمون أننى عاصرت هذه المرحلة بشكل كامل تقريبا حين كنت مستشارا للسفارة من ١٩٨٧ــ ١٩٩١، أى إننى عاصرت تطورات حقبة جورباتشوف حتى انهيار الإمبراطورية السوفيتية الروسية وأعتقد أننى كنت الدبلوماسى الوحيد الذى خدم فى نفس العاصمة لدولتين، أى موسكو الاتحاد السوفيتى، وموسكو روسيا.
خامسا: لعلى أستطيع أن أضيف إلى التحليل القيم للدكتور مصطفى العناصر التالية:
١ــ أتى جورباتشوف إلى سدة الحكم ممثلا لجيل من الشباب خلفا لجيل هرم تكلست أفكاره وتعاظمت مصالحه وفقد الرغبة والقدرة على الإصلاح، ومدفوعا برغبة حقيقية فى الإصلاح بل وإنقاذ البلد من هذا الجيل ومن تدهور خارج السيطرة.
٢ــ نقطة البداية التى حكمت بداية مسيرة جورباتشوف كانت فى توليه منصب سكرتير عام الحزب الشيوعى، الذى كان مقتنعا بأنه أصل الفساد ومن ثم اعتقد أن هدمه تدريجيا هو أساس الإصلاح، دون تقدير لعواقب هذه الخطوة التى بها يهدم الآلية الوحيدة، حتى لو كانت فاسدة، التى تربط بين القيادة السياسية للدولة والمواطنين مما خلق حالة من السيولة والتخبط فى الشارع، منها دعوات الجلاسنوست (المصارحة) والبيروسترويكا (إعادة البناء)، ولهما حديث فيما يلى..
٣ــ كان الاقتصاد السوفيتى، بكل ما تملكه البلد من ثروات هائلة، قد بلغ من الضعف إلى حد أنه ابتداء من الثمانينيات وصل معدل النمو السنوى إلى ناقص ٢٪، وهى معلومة لم يكن يجرؤ أحد أن يعلنها قبل جورباتشوف، والتى أعلنها رئيس وزرائه.
4ــ بقدر ما كان جورباتشوف واثقا فى نجاح سياساته فى إصلاح الاقتصاد بقدر ما دفعه ذلك إلى مستنقع بإجراءات كان يظنها إصلاحا نحو اقتصاديات السوق إلا أنها كانت فى حقيقتها تغييرا يفتقر إلى فكر مدروس ويتطلب بنية تحتية سياسية، اقتصادية، مجتمعية وثقافية غير قائمة، فى ظل اقتصاد يفصل بين جانبيه المدنى والعسكرى سنوات ضوئية؛ بين اقتصاد بدائى لا يعرف معنى الـ cost effectiveness ويمارس الإهدار والتخلف منذ الثورة البلشفية، وبين اقتصاد عسكرى يمتلك إمكانيات تكنولوجية هائلة، ليس بينهما رابط.
وللإنصاف فقد حاول خلق جسر بينهما بسياسة ما سماه التحويل conversion بهدف الاستفادة من التكنولوجيا العسكرية فى القطاع المدنى، والتى لم تتحقق، وأعتقد حتى الآن، نتيجة التعقيدات التكنولوجية والتكلفة المالية الضخمة لهذه العملية.
٥ــ ولكى تكتمل الصورة التى تعكس التبسيط المخل لرؤية التحول لديه، لم يكن ضمن فريقه العامل معه مباشرة مستشار اقتصادى واحد، لكى تتحول محاولة الإصلاح إلى بدء تصدع مجتمعى نتيجة انفتاح العيون على مشهيات الغرب بكل أنواعها والبطون فارغة والسوق يفرض أسعاره الصادمة والإمكانيات قاصرة، وحرية التعبير تفتح الباب على مصراعيه للمطالبة والتذمر والشكوى والاحتجاج، وبدء مؤشرات تصدع الإمبراطورية من قاعدتها.
٦ــ ثم كانت قضية القوميات التى حسمت مسار التفكك فى إمبراطورية يقطنها مئات القوميات غير الروسية بأديان وطوائف وثقافات متعددة ومختلفة لتجد أمامها باب التاريخ مفتوحا لكى تعبر عن متاعبها ومعاناتها المكتومة لكى تكشف عن انقسام مكتوم لقضية القوميات التى ظن ستالين فى الأربعينيات من القرن الماضى (رغم أنه من جورجيا) أنه دفنها بتشتيتها فى أنحاء الإمبراطورية وزرع الروس فى مناطقهم وفرض سيطرتهم على مقدرات الحياة بكل جوانبها.
• • •
كان من شأن القراءة العميقة والدقيقة من خلال فضاء فسيح من المعلومات الدقيقة التى أتاحتها الجلاسنوست مجانا، أن تمكن الإدارة الأمريكية آنذاك من الإمساك بعوامل التغيير الحقيقى فى قبضة حديدية مكسوة بالحرير تدير بها تفكيك الإمبراطورية السوفيتية، ليس من خلال تجنيد وكالة المخابرات الأمريكية لجورباتشوف، فلم يكن ذلك، فى تقديرى، مطلوبا ولا ممكنا، إنما من واقع التغيير الهيكلى الداخلى العميق الذى أحدثته سياسة جورباتشوف التى افتقرت للحنكة السياسية وقللت من شأن عوامل الضغوط والحرمان والضجر والدونية القومية الكامنة تحت السطح، وغاب عنها تقدير واقعى للصراعات التاريخية المتأصلة فى عمق العلاقات الروسية السوفيتية الأمريكية، ولعل الصراع الدائر فى أوكرانيا تذكير معاصر لذلك.
وهكذا جمعت الروشتة الأمريكية الذكية بين الحلم الأمريكى للثراء والرفاهية والاستمتاع والأزياء ومستحضرات التجميل التى يعشقها الروس، وماكدونالدز الذى افتتح فى موسكو فى أواخر الثمانينيات أكبر مطعم له فى العالم ويسع ٧٠٠ فرد، وبين الدفع بقوافل القطاع الخاص بمشهياته الاستثمارية لكى تنهل من ثروات البلاد الضخمة بفعل الخصخصة الفاسدة، ناهيك عن الضغوط التى سبقت ذلك من خلال حرب ريجان للنجوم، لتجتمع وتتفاعل كل هذه العوامل لتزرع انقساما عميقا تأكدت بوادره بالانقلاب ضد جورباتشوف فى أغسطس ١٩٩١، وليعتلى يلتسن، عمدة موسكو، منصة الانقسام فى القيادة السياسية والارتماء فى أحضان الغرب وشعبية مستقبل غربى موعود، وتحرير القوميات من الآسر الروسى السوفيتى، وليدفع البلاد نحو اختيارين لا بديل لهما، إما تدخل الجيش الساخط على التغيير لتتحول البلاد إلى شوارع من الدماء فى كل أنحاء الدولة الأكبر مساحة فى العالم، وينتهى بها الأمر إلى انهيار ما، أو القبول بالتفكك الصادم بدلا من الانهيار الكامل والحفاظ على الأقل على روسيا بثقافتها وتاريخها وهويتها القيصرية ومواردها الطبيعية وفوق ذلك كله بتفوقها العسكرى.
فى الختام، لا بد أن كل هذه الاعتبارات وغيرها كانت فى رؤية بوتين منذ تسلمه الرئاسة من يلتسن فى عام ٢٠٠٠، للماضى والحاضر والمستقبل، ولعلها تساعد فى تفهم تحركاته وقراراته عبر الاثنى وعشرين عاما الماضية، وحتى الآن.

رؤوف سعد سفير مصر الأسبق في موسكو
التعليقات