عندما تظهر هذه السطور، ستكون حدة المشاعر التى ألهبتها تداعيات مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر فى الخرطوم قد هدأت على الأرجح، إلى الحد الذى يسمح، بل يتطلب مناقشة عاقلة وموضوعية لكل ما جرى قبل المباراة، وبعدها.
أقول مناقشة، ولا أقول تحقيقا برلمانيا أو قضائيا، لأن مثل هذا التحقيق لن يحدث فى الغالب، وإن كنت أتمناه، وأنضم إلى المطالبين به، لكن هكذا جرت الأمور فى أحداث ومحن أكبر من تلك التى نتحدث عنها الآن، وسوف تجرى الأمور هكذا أيضا إلى أجل لا يعلمه إلا الله.
إننا لم نحقق فى هزيمة 1967، كما ينبغى أن يكون التحقيق الموجه لوضع الحقائق كاملة أمام الشعب، كذلك لم نحقق فى مظاهرات الطعام فى يناير عام 1977، إلا بغرض إدانة الحركة والحط من شأنها، وكذلك لم نحقق فى تمرد الأمن المركزى وغيرها من الكوارث التى تتالت، وأبرزها حريق مجلس الشورى، الذى تبين بعده أن أكثر من خمسين تحذيرا وجهت من المسئول «الصغير» إلى رئيسه من نقص شبه كامل فى معدات وإمكانات وكوادر وإطفاء حريق فى المبنى العتيد، إذا شب مثل هذا الحريق.
الأمثلة على أى حال تستعصى على الحصر.. ولا تحقيق واحدا يظهر كل الحقائق، ويعاقب المسئولين من أدناهم إلى أعلاهم، بما فى ذلك فضيحة صفر المونديال الذى يعيدنا مرة أخرى إلى مأساة إهانة كرامة المصريين بعد مباراة الخرطوم، كما أجمع على ذلك كل شهود العيان وأطراف الأزمة من المصريين الذين كانوا هناك، فما دام الأمر يتعلق بكرامة مصر والمصريين، وما دام قد أدى إلى كل هذه التداعيات السياسية، فلابد من مناقشة عاقلة لاستخلاص الدروس، إذا كنا مهتمين حقا بهذه الكرامة، وبتفادى إهانتها مرة أخرى، ومعاقبة من يعتدون عليها.
لن أتحدث عن الجزائر، والجزائريين، لأننى أفترض أن عقلاءهم فى السياسة والإعلام والثقافة والرياضة يجب أن يفعلوا، مثلما نحاول فى هذه السطور أن نفعل، ويناقشوا ما جرى بهدوء، وتعقل، وأثق أنهم أيضا لن يجروا تحقيقا بالمعنى الذى نتمناه.. لأنهم هناك يتماثلون معنا فى نقطة التهرب من التحقيقات الجادة الموجهة لوضع كل الحقائق أمام شعبهم.
أولى الملاحظات المهمة فى هذا النقاش الساعى لاستخلاص الدروس هى أن هذا الاحتقان فى المشاعر المعادية لمصر فى اللقاءات الرياضية لدى الجزائريين، يعود إلى أكثر من ثلاثين سنة، وظهر أول ما ظهر بهذه الصورة الكريهة فى أواخر السبعينيات فى إحدى الدورات الأفريقية، ثم تكرر بروز هذه المشاعر فى كل مناسبة رياضية بين البلدين تقريبا، فإذا كانت الإدارة السياسية والرياضية فى الجزائر ترى ــ لأسبابها الخاصة ــ عدم التصدى للظاهرة، فلماذا لم تبادر الإدارة السياسية والرياضية فى مصر إلى التصدى للمسألة، وإثارتها على جميع المستويات، وإقناع الجهات المعنية فى الجزائر بالتعاون فى البحث عن حلول؟، فإذا تقاعس الجانب الجزائرى، ننقل القضية إلى المحافل الرياضية العربية والدولية، أولا، ولا مانع من طلب تدخل القيادة السياسية العليا فى كل من البلدين، وقد فعلت السيدة مارجريت تاتشر شيئا من ذلك بالتشادور مع القيادات السياسية الأوروبية، للقضاء على شغب «الهوليجان» الإنجليز فى ملاعب كرة القدم الأوروبية، وعلى أى حال فقد اضطرت القيادتان السياسيتان فى مصر والجزائر للتدخل، ولكن بعد أن تحولت الظاهرة إلى أزمة سياسية كبيرة، وكادت أن تفضى إلى مذبحة فى الخرطوم.
ثانى الدروس التى يجب ألا ننساها أن هذا التجييش العدائى ضد المصريين فى كرة القدم تكرر فى لقاءات مع دول عربية أخرى، فمن ينسى الحرب الإعلامية بين المصريين والسعوديين عقب لقاء منتخبى البلدين فى كأس القارات بالمكسيك، وأظن أن كثيرين لا يزالون يتذكرون جو الإرهاب الذى أدى فيه فريق النادى الأهلى مباراته أمام الهلال السودانى منذ بضعة أعوام، كما أننا نتذكر تلك الفرحة الهيستيرىة لدى الجماهير السودانية لمجرد أن المهزوم هو الأهلى المصرى.
لقد أفاض كثيرون من المؤهلين، ومن غير المؤهلين فى تفسير هذه الظاهرة.. ظاهرة التجييش المختلط بالعداء للمصريين عند الدخول معهم فى مناقشة لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية، فلا داعى إذن لتكرار ما قيل بالحق أو بالباطل، ولكن ما يهمنا أن نبحث أفضل الطرق لمواجهة المشكلة، بدءا من مقاطعة اللقاءات العربية، وهذا ما لا أفضله، وانتهاء بوضع استراتيجية شاملة من خلال الإدارة الرياضية لجامعة الدول العربية يقرها وزراء الشباب والرياضة العرب، بمشاركة المسئولين عن الدبلوماسية، والإعلام، والثقافة وغيرهم، من المطلوبة أدوارهم، وقد يفيد هنا أن نتذكر أن المصالحة الأمريكية الصينية بدأت بمباراة فى تنس الطاولة، وأن تتويج المصالحة التركية الأرمينية جاء بمباراة فى كرة القدم بين فريقى البلدين.
أما الدرس الثالث الذى أتوقف عنده، فهو ذلك الدور التخريبى المتروك له الحبل على الغارب للإعلام التجارى، والأمثلة فى الأزمة الأخيرة صارخة بما لا يطاق، ومع ذلك فلم نسمع تحركا أو حتى دعوة فى أى من البلدين ــ الجزائر ومصر ــ لمحاكمة من روج أنباء كاذبة عن سقوط قتلى جزائريين، فى القاهرة فى مباراة السبت 14 نوفمبر، أو محاكمة من حرض على العنف وسفك الدماء من الإعلاميين المصريين، إذا كان قد حدث ذلك كما يقول البعض.
وإذا كان مجلس وزراء الإعلام العرب ــ بمبادرة مصرية سعودية ــ قد حاول وضع ميثاق إعلامى عربى لضبط عمل المحطات التليفزيونية الخاصة لأغراض سياسية أو سلطوية محضة، فها هو ذا الأوان قد آن للتحرك بأقصى سرعة لتنظيم وضبط أداء الإعلام الرياضى العربى بالجملة، على أن يتضمن التحرك آلية فعالة لجلب المحرضين والمروجين للأنباء الكاذبة للمحاكمة بسرعة، ولكن على أن يتضمن هذا التحرك أيضا معايير للتدريب والتأهيل المهنى، وهذا قد يتطلب تشريعات وطنية تنص على إصدار تراخيص بمزاولة المهنة، مثلما يحدث فى أغلب دول العالم، وبحيث يكون سحب الرخصة هو العقاب الفورى، والإجراء الوقائى فى الوقت نفسه ضد من يشعلون النيران فى قلوب الجماهير.
نصل الآن إلى أهم الدروس، لمصر والمصريين، وهو هذا الخلل الفاضح والمتكرر فى إدارة الأزمة منذ بدايتها، ولن أبدأ بالحديث عن الخطأ فى اختيار السودان من جانب اتحاد الكرة المصرى لأداء المباراة الفاصلة، ولكننى أتساءل فقط، هل اتخذ هذا القرار بعد دراسة أو تشاور بين اتحاد الكرة وبين الجهات المعنية فى الدولة أمنيا ودبلوماسيا؟.
سؤال آخر، هل توافرت المعلومات اللازمة فى الوقت المناسب للسلطات المصرية من الجزائر والخرطوم عما يحتمل أن يحدث قبل المباراة أو فى أثنائها أو بعدها؟.
من المؤكد أن نوعية الجماهير التى أوفدتها الجزائر والروح المسيطرة على هذه الجماهير، كانت ظاهرة للمعنيين المصريين فى الجزائر، فهل أدركوا طبيعة الخطر المقبل أو المحتمل، أم إنهم استهانوا بما يحدث، وهل أرسلوا تقاريرهم إلى من يهمهم الأمر؟ وماذا فعل الرسميون المصريون فى الخرطوم طيلة الأيام الثلاثة السابقة على المباراة؟
فى الليلة السابقة على المباراة اتصل بى صديقى المهندس سيف عنان المتخصص فى نظم الاتصالات وإنذار الحريق، قائلا: إنه عاد اليوم من نيروبى عن طريق الخرطوم، وأضاف أن الوضع فى العاصمة السودانية ينذر بكارثة، بل بمذبحة، ودعانى إلى المبادرة إلى الاتصال بصديقى حسن المستكاوى الناقد الرياضى «العاقل على حد قوله» للاتصال بدوره بالمسئولين فى اتحاد الكرة المصرى، وفى الاتحاد الدولى لكرة القدم «الفيفا» لإعادة تقييم الموقف فى الخرطوم بسرعة، واتخاذ قرار بتأجيل المباراة أو نقلها، طبعا كان ردى أن الوقت أصبح متأخرا جدا، وقد تلقيت تحذيرات مماثلة من أصدقاء مصريين مقيمين فى الخارج وصلتهم تقريرات مماثلة من أصدقاء أو أقارب يقيمون فى الخرطوم.
فهل كان هؤلاء جميعا أقدر على جمع المعلومات وتحليلها وتقدير الموقف من الرسميين المصريين، ولماذا لم يبذل جهد فى اللحظة الأخيرة لإطلاع المسئولين الدوليين على ما يجرى وكان ذلك أفضل من التقصير فى إرسال جمهور كرة القدم الحقيقى للخرطوم، فهل كان الغائب هو المعلومات، أو المبادرة، أو القرار.. لا أحد يعرف، ولن يعرف أحد، على الأرجح، كما سبق القول.
وهل كان من اللائق لكرامة مصر، ولإثبات حقوقها أمام الفيفا والرأى العام الرياضى الدولى، أن نحاول خداع الجميع بالادعاء أن لاعبى الجزائر لم يتعرضوا لأى شىء غير عادى فى القاهرة؟ وكيف تصور المسئولون عن هذه السقطة بتعبير نقيب الصحفيين المصريين الأستاذ مكرم محمد أحمد ــ أن هذه «الفهلوة» سوف تنطلى على الفيفا.
تصوروا موقف الفيفا منا لو أننا كنا صادقين، ولم نحاول خداعه. انتهى الدرس يا...