نشر الموقع الأمريكى «The Chronicle of Higher Education» والمتخصص فى القضايا التعليمية مقالا للكاتبين «كيت مان» أستاذ الفلسفة المساعد بجامعة كورنيل ــ و«جاسون ستانلى» ــ أستاذ الفلسفة بجامعة ييل ــ والذى يتناول التناقض فى المجتمع الأمريكى خاصة فى الجامعات الأمريكية التى تدعى احترامها العميق والتزامها بحريات الرأى والتعبير، وهذا عكس ما هو موجود على أرض الواقع فنجد التضييق على ذوى الآراء المختلفة وشيطنتهم واتهامهم بعدم النضج وتشويههم.
يوضح الكاتب أنه فى الآونة الأخيرة قام طلاب «جامعة ميسورى» بالضغط على رئيس الجامعة ومستشارها لتقديم استقالتهما، وفى جميع أنحاء العالم نشهد موجة من الاحتجاجات المتماثلة، وفى كثير من الأحيان يتم تشويه هذه الاحتجاجات الطلابية وتسىء وسائل الإعلام تناول تلك الاحتجاجات ويتم توجيه النقد إليها باعتبارها أفعالا صبيانية صادرة من طلاب مرفهين ومدللين، والمثير للجدل والمقلق فى هذا الأمر ليس فقط أنهم بدلا من أن يشجعوا ممارسة حرية الرأى والتعبير لإتاحة الفرصة للإصلاح السياسى، فإنهم ما زالوا يهاجمونها وينتقدونها. هم يدعون التزامهم بحرية الرأى والتعبير وما يحدث على أرض الواقع هو النقيض التام.
ما الذى يفسر تلك المفارقة الواضحة؟
كلمة واحدة هى «الدعاية»، إن مفهوم حرية الرأى والتعبير يتم استغلاله من قبل الجماعات المهيمنة فى المجتمع بشكل سيئ لخدمة مصالحهم ويستخدم لإسكات المهمشين والمعارضين، ويتم تصوير الآخرين ووصفهم باعتبارهم يمثلون تهديدا لحرية الرأى والتعبير، ويظهر هنا التناقض الشديد.
إن الأحداث الأخيرة فى «جامعة ييل» هى نقطة مهمة فى هذه القضية، فى أواخر أكتوبر الماضى وبمناسبة أعياد الهالوين، قامت لجنة الشئون الثقافية فى «جامعة ييل» بإرسال بريد إلكترونى إلى هيئة الطلاب، وفى الوقت الذى أكدت فيه «جامعة ييل» التزامها القوى واحترامها العميق لحرية الرأى والتعبير، نجد أنها اقترحت على الطلاب أن يضعوا فى أذهانهم عند تصميم أزيائهم أن يكونوا «واعين بوجهات نظر الأقليات».
ويستطرد الكاتب قائلا: إن «جامعة ييل» هى مجتمع يقدر حرية الرأى والتعبير وكذلك الشمولية. وفى حين أن الطلاب والخريجين بالفعل لديهم حق التعبير عن أنفسهم بالطريقة التى يختارونها، ولكن نأمل أن يتجنب الطلاب الحالات التى من شأنها أن تهدد شعورنا بالانتماء إلى المجتمع أو تشعرنا بالازدراء أو تسخر وتنفر من قطاعات من السكان على أساس العرق، الجنسية، الدين، النوع. ولم يمر عقد على آخر طالب احتفل بالهالوين بوجه أسود.
فى 30 أكتوبر الماضى «إيريكا كريستاكس» ــ أستاذ مشارك فى كلية سيليمان فى جامعة ييل ــ أرسلت بريدا إلكترونيا للطلاب ردا على هذا البريد الإلكترونى ورفضت فيه «السيطرة الضمنية» «واللوم الموجه من أعلى» التى قرأته فى البريد الإلكترونى وقالت: «إذا كنت لا تحب الزى الذى يرتديه الآخرون انظر بوجهك بعيدا، أو أخبرهم أنك مستاء، تحدثوا مع الآخرين، فحرية الرأى والتعبير والقدرة على التسامح وقبول الآخر هى من أهم السمات المميزة للمجتمع الحر الذى يحترم التنوع».
***
إن مفهوم حرية التعبير هو مفهوم غامض بشكل كبير، فهو يستخدم للإشارة إلى الحق السياسى الذى يكرسه والفكرة الأخلاقية التى يجسدها. ومن ثم باعتباره يشير إلى حق سياسى فإنه يمكن ضمان ذلك الحق وحمايته من خلال التعديل الأول والرابع عشر للدستور، وهذا يعنى أنه ليس من حق «الحكومة» التدخل فى رأى أى شخص أو فى طريقة تعبيره عن نفسه. وترد استثناءات قليلة على هذا القانون وتتضمن الكلام الملفق والمزور والكلمات التى تشجع على العنف والافتراءات.
ويضيف الكاتب أنه لكى يتمتع الإنسان بحرية الرأى بشكل حقيقى، فلابد أن يكون الإنسان حرا فى طرح الأسئلة والنقاش وحتى حرا فى السخرية من ثوابت الآخرين. ومن حقك أيضا أن تقول للشخص الآخر إنه غير موفق فى استخدام الكلمات أو أنه استخدم كلمات غير مناسبة أو أنه كان من المفترض ألا يتحدث من البداية.. «فاللوم وتوجيه العتاب يختلف تماما عن الرقابة».
ويتساءل الكاتب: متى يكون من الممكن أن نشجع الناس على اختيار كلماتهم بعناية أكبر أو نخبرهم أنه من الأفضل أن يظلوا صامتين.. متى ينبغى لنا أن نقول ذلك؟
ربما لم تكن «كريستاكس» تنتوى إثارة الطلاب ولكن ملاحظاتها أثارت ردة فعل قوية من بعض الطلاب وهذا ليس مستغربا.. فحرية التعبير أصبحت قضية مسيسة بشكل متزايد فى «جامعة ييل» وفى غيرها من الأماكن.
***
قبل بضعة أشهر استضافت «جامعة وليام باكلى» ــ أستاذ علم النفس الاجتماعى فى جامعة نيويورك ــ «جوناثان هليبرت» وفى حديثه ناقش قضايا حرية الرأى والتعبير وتناول قضية وصف الطلاب الذين يقومون بالاحتجاجات باعتبارهم شبابا غير ناضجين ومدللين، وأوضح أن الجماعات التى تعرضت عبر تاريخها للاضطهاد هى الأكثر قدرة على لفت الانتباه إلى مثل هذه الاعتداءات الصغيرة لأنهم هم من عانوا منها قبل ذلك.
بعد البريد الإلكترونى التى أرسلته «كريستاكس» اندلعت احتجاجات وشملت أفرادا من الأقليات وأنصارهم، ومن ذلك الحين تم وصف نشاطهم السياسى بواسطة العديد من المعلقين باعتباره موجة غضب سخيفة ردا على بريد إلكترونى واحد. أكثر من كونه رد فعل على الظلم العنصرى والمؤسسى والهيكلى الحقيقى ومنه على سبيل المثال استمرار ندرة أعضاء هيئة التدريس من ذوى البشرة السوداء فى «جامعة ييل».
إن التجربة المشتركة لكونك الطالب الأسود الوحيد فى الفصل، وأن يتم معاملتك بشكل غير متكافئ مع زملائك كأن يتم توقيفك من قبل أمن الجامعة وسؤالك عن بطاقة الهوية الخاصة بك لهى تجربة مريرة حقا، بالطبع ليست «كريستاكس» المسئولة عن هذه التوترات والاحتجاجات ولكن ملاحظاتها جعلت تلك التوترات تطفو على السطح. ومع ذلك تم شيطنة هؤلاء الطلاب المحتجين فى «جامعة ييل» باعتبارهم يهددون حرية الرأى والتعبير.
***
بالنظر إلى الأحداث فى «جامعة ييل» بعد إرسال لجنة الشئون الثقافية البريد الإلكترونى إلى الطلاب وقد عارضت كريستاكس هذا الفعل من حيث المبدأ بالأساس وليس المحتوى فقط وعارضها الطلاب أيضا لأنها لا يجب أن تفعل ذلك باعتبارها أستاذا فى الجامعة، وعارض النقاد معارضة الطلاب لأنهم لا يجب أن يحتجوا بهذا الشكل وهنا نرى ردود الأفعال المختلفة، ومن ثم كان لابد من التساؤل حول أسباب تلك الاختلافات فى ردود الأفعال؟، ويمكننا القول إنه عندما يعارض الأفراد فى المستويات الاجتماعية والمؤسسية الأدنى من هم أعلى منهم مرتبة يتم قراءة ذلك باعتباره عصيانا وتحديا ووقاحة فى بعض الأحيان، وعندما تسير الأمور فى عكس الاتجاه بمعنى عندما ينتقد أصحاب المرتبة الأعلى من هم أدنى منهم مرتبة يتم التعامل مع هذا الأمر باعتباره أمرا طبيعيا وأن ذلك فى سياق العمل.
توضح لنا نظرية «تأكيد الذات» أن أعضاء المجموعات والأفراد الذين استفادوا من ممارسات الاستبعاد وكانوا متواطئين بشكل أو بآخر فى العمل على استمرار هذه السياسات سوف يعانون من اضطراب خطير فى إحساسهم بذاتهم عندما يتعرضون للظلم وعدم العدالة.
«كريستوفر ليبرون» ــ أستاذ الفلسفة فى جامعة ييل ــ يوضح أن بعض الأفراد يشتركون فى مجموعة من الطرق التى تجلعهم يبدون وكأنهم متميزون وأفضل من غيرهم، ويتم إضفاء الشرعية على مجموعة من الخرافات التى من شأنها الحفاظ على نظرتهم لأنفسهم باعتبارهم هم الأفضل فى هذا المجتمع العنصرى، وبعد ذلك نجد هؤلاء الأفراد ينصبون أنفسهم كمدافعين عن قضايا مثالية مثل قضية حرية الرأى والتعبير فى نفس الوقت الذى يقومون فيه بتشويه سمعة الأفراد الذين ينادون يالتغيير الحقيقى.
وختاما لقد استقالت «كريستاكس» ولكن لم تكن استقالتها بسبب البريد الإلكترونى فقط، وإنما بسبب عدم الرضاء المتزايد والتضييق على أصحاب الآراء المختلفة وخنق حرية التعبير واستبعاد الآخرين من المشاركة الفعلية.
إعداد: ريهام عبدالرحمن العباسى
اللينك الأصلى: http://bit.ly/2oD3BJY