قد يتكرر حديثى عن معهد القلب القومى لكنه التكرار الذى يشبه كل العمليات الحيوية التى يقوم بها الجسم بصورة لا إرادية ليس له أن يتحكم فيها وإن كان فيها حياته. أنا بالفعل أسكن هذا المكان ويسكننى منذ بداية رحلة حياتى العملية وإلى الآن.
حدود مسئولياتى تتجاوز حدود عملى كطبيبة بلا أى صفة وظيفية إدارية تكفل لى صياغة قرار أو اتخاذ إجراء أو الظهور على مسرح أحداث. تظل الخدمة فى معهد القلب القومى هى رسالتى التى اخترتها عن قناعة واتخذتها سبيلا للسعى والجهاد فى سبيل الله.
من هذا المنطق تحدثت دائما وعملت بمساعدة المحترمين من زملائى على كل ما يضمن حسن أداء كل الخدمات التى يقدمها المعهد لمرضاه بجميع الصور وكل المعانى فكنا جميعا أفراد عائلة واحدة ترعى المكان وتقوم على رعاية وخدمة كل من يلجأ إليه.
هذا ما دفعنى اليوم للكتابة عن مشكلة تهدد بتداعيات كارثية طالبة العون من كل أصحاب الشأن.
يحتل مبنى معهد القلب مساحة مربعة الشكل يحدها من الباب الرئيسى ميدان ابن النفيس (الإمام) بينما يقع مدخله الخلفى (مدخل مرضى العيادات) على شارع عمر طوسون.
يبقى ضلعان الشمالى يحده سور نادى طلعت حرب واليمين شارع آخر صغير به باب المشرحة.
لك عزيزى القارئ أن تتصور حركة المرور حول الجهات الأربعة لمبنى معهد القلب القومى وعدد العربات التى تتحرك فى كل الجهات إما لتخرج من عنق الزجاجة للشوارع المجاورة أو تلك التى تبحث عن مكان مستحيل للركن والانتظار.
إذا ما تجاوزنا عن كل ما يحدث من زحام وإزعاج وتلوث حول المعهد من جهات ثلاثة فإنك أبدا عزيزى القارئ لن يمكنك التغاضى أو غض البصر عن المشهد الملحمى الماثل على الضلع الشمالى بامتداد سور نادى طلعت حرب. شارع ضيق له رصيف واحد ملاصق للسور فى مواجهة مبنى المعهد والذى فيه يفتح باب الطوارئ الذى تحمل إليه عربة الإسعاف مرضى الحالات العاجلة إلى قسم الاستقبال. أيضا بلا شك المترجلون من أصحاب الحالات القلبية العاجلة مع أقاربهم أو من أسعده الحظ بالمجىء فى عربة خاصة أو وسيلة مواصلات.
تمنيت لو أسعفتنى مفرداتى لوصف هذا المشهد فى عرضه المتصل على امتداد أربع وعشرين ساعة لا يتوقف لحظة!
شارع ضيق والحمد لله يسمح فيه بالمرور فى اتجاه واحد تمر منه عربة الإسعاف إلى مدخل الاستقبال تمر منه أيضا بلا استثناء كل أنواع العربات والعجل والتوك توك والكارو وعربات الخضار والفاكهة للباعة الجائلين وتستقر على جانبه عربة البطاطا والذرة المشوية وعربات الباعة الجائلين وعليها كل ما يتصور الباعة أنها تهم أقارب المرضى الذين يتلقون العلاج داخل الاستقبال وقد افترشوا الأرض على الرصيف الوحيد فى الشارع والممتد بطول سور نادى طلعت حرب. منهم من افترش الأرض أو صندوق فارغ من الكرتون أو اصطحب سجادة عندما طال به الانتظار لأيام. منهم بالفعل من يقضى يومه جالسا أو ممددا على الأرض مصطحبا أولاده وأفراد أسرته.
يدور بين هؤلاء جميعهم أصحاب «نصبة» الشاى والقهوة وصناديق المياه والمشروبات الغازية يفرضون الجباية عليهم ويؤجرون لهم الكراسى أو «الفرشة» حتى أصبح للرصيف إدارة يقوم عليها مجموعة من البلطجية لا يكتفون بالبيع والشراء بل يتقاضون ثمن خدمات وهمية منها توصية الأطباء فى الاستقبال بالكشف على المرضى حسب الأهمية بل واستخراج قرارات العلاج على نفقة الدولة أو العلاج المجانى وصرف الأدوية وكلها بحق الله تصرف للجميع بدون تمييز وفقا لاحتياجاتهم ويسعى إلى إصدارها الأطباء دون أى تفرقة بين المواطنين بتلقائية. هذا كله ولم أتحدث عن أكوام القمامة مراعى الذباب والحشرات.
الأسبوع الماضى تعرض أحد أفراد أمن المعهد لحادثة طعن بمطواة قام بها أحد هؤلاء البلطجية بعد أن حاول منعه من دخول الاستقبال باحثا عن رزق حرام!
خطر ببالى أن أناقش الأمر مع زملائى وانتهى بنا الحال أن نخاطب محافظ الجيزة اللواء أحمد راشد فقد كان دائما لنا عونا فى مشكلات عديدة وقد كان: التقطت مجموعة من الصور للمكان وما يحدث فيه وأرسلتها للسيد المحافظ على أمل أن يساعدنا وأبديت استعدادا لأن نشارك فى الحل بفاعلية.
لم تمض دقائق حتى جاءنى صوت اللواء راشد بنفسه على التليفون دار بيننا حوار بعث فى نفسى الثقة التى توحى بأن هناك بالفعل من أبناء هذا الوطن من نذر كل جهده للمسئولية.
خلال ساعتين حملت محافظة الجيزة والحى مسئولية تنظيف المكان من أكوام القمامة ووجود الباعة الجائلين بعد مكالمة السيد المحافظ.
لكن فى صباح اليوم التالى عاد كل إلى موقعه..
لم ينته الأمر عند هذا الحد إذن!
ما زالت مشكلة الرصيف خطرا يهدد معهد القلب القومى ومعظم النار من مستصغر الشرر وما زالت ماثلة فى أعيننا حوادث الاعتداء على الأطباء بل وكارثة تحطيم حجرة القسطرة بالكامل.
قد يكون للقضية جانب أمنى مهم لكن الواقع أن لها أيضا جانبا إنسانيا أخاله أهم: كيف يمكن أن نوفر لأولئك المواطنين الذين يحتمون بسد الغلابة العالى «معهد القلب القومى» والذين ينتظرون أقاربهم المرضى.
المرضى وأسرهم فى حمى الدولة. هو والله فرض عين: توفير أماكن آدمية مريحة لهم.
الباب مفتوح للاقتراحات وللحديث بقية السبت القادم وعلى الله القصد.